حرية الصحافة عند أدنى مستوياتها فى كبرى الديمقراطيات
حرية الصحافة فى مصر مصُونة ويحميها الدستور
احتفل العالم لأول مرة فى 3 مايو 1991 بحرية الصحافة فى مؤتمر عقدته اليونسكو فى مدينة ويندهوك عاصمة نامبيا، والذى اعتمد إعلان ويندهوك التاريخي لتطوير صحافة حرة مستقلة وتعددية، لتُعلن بعد ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1993 أن 3 مايو هو اليوم العالمي لحرية الصحافة.
ويأتى الاحتفال بهذا اليوم بهدف تذكير الحكومات بضرورة احترام التزاماتها وتعهداتها تجاه حرية الصحافة، فضلا عن الاحتفال بمبادئها الأساسية، ورصد واقع حرية الصحافة فى العالم، والدفاع عن وسائل الإعلام من أى اعتداءات على استقلالها، وتوعية المواطنين بالانتهاكات التي يتعرض لها الصحفيون، كما أنه يعد فرصة لإحياء ذكرى الصحفيين الذين قدموا أرواحهم فداء لحرية الكلمة ورسالة القلم.
التكنولوجيا الرقمية تخلق قنوات جديدة لقمع الصحفيين
وتحت شعار ” الصحافة تحت الحصار الرقمى”، جاء احتفال هذا العام ليؤكد حقيقة أن مهنة الصحافة مهنة محفوفــة بالمخاطــر والتحديات التى تجاوزت الحيز الواقعي إلى المجال الرقمي الذى على الرغم من إتاحته مزيد من الحريات، أوجد قنوات جديدة للقمع وسوء المعاملة، وفاقم من التهديدات التى لا تنتهك حرية الصحافة والحق فى حرية التعبير فحسب، بل تُلحق الأذى بالصحفيين وتخيفهم بطرق تؤثر سلبًا على قدرتهم على الاطلاع على المعلومات وآخر المستجدات، وذلك فى ظل تنامي الاعتداءات والهجمات الرقمية على الصحفيين، وعواقب ذلك على ثقة الجمهور في الاتصالات الرقمية.
ففي السنوات الأخيرة، اُستخدمت كثير من الأدوات الرقمية لتهديد سلامة الصحفيين ونزاهتهم ومصادرهم ومنها التحرش عبر الإنترنت والمراقبة الجماعية المحددة الأهداف، ونقاط الضعف فى تخزين البيانات، والهجمات الرقمية بما فى ذلك القرصنة، بل وزادت تلك التهديدات خلال جائحة كوفيد 19 حيث يعمل المزيد من الصحفيين عن بُعد ويعتمدون على أجهزتهم الشخصية.
كورونا تُفاقم وتيرة الاعتداءات على الصحفيين
وكشف استطلاع عالمي عن الصحافة أثناء تفشي الجائحة أجراه المركز الدولي للصحفيين ومركز “تاو” للصحافة الرقمية فى جامعة كولومبيا، عن أن نحو 20% من الصحفيين المشاركين فى الاستطلاع تعرضوا لتهديدات صارخة من تحرش وهجمات عبر الإنترنت، مؤكدين أنها “كانت الأسوأ بكثير من المعتاد” خلال الجائحة.
برامج التجسس..إهانة للحق فى الخصوصية
وفى الوقت الذى تتزايد فيه برامج التجسس والمراقبة التى تُعد إهانة للحق في الخصوصية وعرقلة لحرية التعبير، مثل برنامج Candiru أو برنامج “بيغاسوس” التابع لمجموعة “إن إس أو” والذى اُستخدم للتجسس على الصحفيين بمجرد تنزيل المستخدم له على الهواتف الخلوية، والاطلاع على الرسائل والبيانات والصور ووجهات الاتصال، لا تتوفر لدى العديد من الصحفيين الوسائل الكافية للحصول على الأدوات الرقمية التى تساعد فى حمايتهم من الهجمات الرقمية، ولا تُقدم شركات الإنترنت والمؤسسات الصحفية والإعلامية الدعم الكافي فى معظم الأحيان.
تزايد أعداد الصحفيين المسجونين عالميًا
من بين التهديدات التى تلحق بالصحفيين السجن والقتل، وعلى الرغم من تراجع جرائم قتل الصحفيين، إلا أن حالات سجنهم تشهد ازديادًا وهو ما أكده تقرير الاتجاهات العالمية 2021-2022 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو ” حيث ذكر أنه بين بداية عام 2016 ونهاية عام 2020، قُتل 400 صحفي فى جميع أنحاء العالم حيث يتفاوت عدد جرائم القتل بشدة بين المناطق لتسجل آسيا ومنطقة المحيط الهادى وكذلك منطقة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أكبر عدد من جرائم القتل المرتكبة ضد الصحفيين خلال السنوات الخمس الماضية بزيادة تقدر بنحو 31%.
وأشار تقرير اليونسكو إلى أنه لايزال الإفلات من العقاب على جرائم القتل المرتكبة ضد الصحفيين مصدر قلق دائم فى جميع أنحاء العالم، باعتباره عقبة أمام ضمان سلامة الصحفيين وعاملً مروعًا يساهم فى اتباع نهج الرقابة الذاتية، وفى حين أن حالات قتل الصحفيين قد تراجعت، بقى معدل الإفلات من العقاب على الصعيد العالمي مرتفعًا للغاية مع بقاء نحو 9 من أصل 10 قضايا متعلقة بقتل الصحفيين أى نحو 87% من القضايا عالقة ولم يتم البت بها.
كما أكد تقرير اليونسكو تزايد الهجمات على الصحفيين الذين يغطون الحركات الاحتجاجية من قبل قوات الأمن والمشاركين فى الاحتجاجات على حد سواء والتى تشمل اعتداءات جسدية وتدمير للمواد الصحفية، وتهجمات لفظية وذلك انتقامًا منهم لتغطيتهم الحركات الاحتجاجية، ففي الفترة من يناير إلى أغسطس 2021 ، سجلت اليونسكو كثيرًا من الاعتداءات على الصحفيين أثناء تغطية الاحتجاجات والمظاهرات وأعمال الشغب فى 60 بلدا على الأقل فى جميع أنحاء العالم.
تصاعد العنف ضد الصحفيات
وبحسب المركز الدولي للصحفيين، فإن العنف الذى تواجهه الصحفيات فى تزايد حيث وجد استطلاع للرأى أن 73% من الصحفيات المشاركات فى الاستطلاع أكدن تعرضهن لشكل من أشكال العنف عبر الإنترنت ، فضلا عن أن نحو 20% منهن تعرضن للهجوم أو الإساءة خارج شبكة الإنترنت.
ونظرا لأن الصحافة إحدى وسائل التعبير عن الرأى فى المجتمعات المعاصرة والتى تحتل منزلة كبيرة فى النظم الديمقراطية، اهتمت بها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان العالمية والإقليمية، وأوردت نصوصًا تؤيد حريتها، فجاءت حرية التعبير كحق أساسي من حقوق الإنسان على النحو الذى نصت عليه المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”.
حرية الصحافة فى مصر مصُونة ويحميها الدستور
لم يكن الحرص على حرية التعبير والصحافة مجرد مبادىء يتم وضعها فى القانون المصرى ولكنها كانت استلهامًا حقيقيًا تم استقاؤه من مبادىء الدساتير المصرية على مدار تاريخ الدولة والتى حرصت جميعها وبشكل كبير على ضمان حرية الرأى والتعبير وضمان استقلال الصحافة والإعلام إلى أن صدر دستور 2014 ، والذى نص صراحة فى المادة 65 على أن ” حرية الفكر والرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو بالتصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير والنشر”.
ثم جاءت المادة رقم 72 من الدستور لتنص على أن «تلتزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص في مخاطبة الرأي العام”.
كما كفل الدستور حظر الرقابة على الصحف أو إنذارها أو وقفها أو إلغائها بالطريق الإداري واعتبرها تمارس رسالتها على الوجه المبين فى الدستور والقانون ، وأن الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام أحد أركان الديمقراطية ، ليؤكد الدستور على حرية الرأي و التعبير الواردة في المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الانسان وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 (المادة 19) والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966.
القانون يكفل كافة وسائل الحماية لحرية الصحافة
كفل القانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كافة وسائل الحماية لحرية الصحافة والإعلام والطباعة والنشر الورقي والمسموع والمرئي والإلكتروني وحظر فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية، ومصادرتها، أو وقفها، أو إغلاقها.
كما كفل حقوق الصحفيين والإعلاميين وأنهم مستقلون في أداء عملهم، فلا يجوز أن يكون الرأي الذي يصدر عن الصحفي أو الإعلامي سببا لمساءلته، كما لا يجوز إجباره على إفشاء مصادر معلوماته، فضلا عن أن القانون ألزم الجهات الحكومية والجهات العامة الأخرى بتمكين الصحفي أو الإعلامي من الحصول على البيانات والمعلومات والأخبار.
الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان تدعم حرية التعبير
كما أن المحور الأول للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان والخاص بالحقوق المدنية والسياسية، اشتمل على حقوق أساسية للإنسان ترتبط بأمنه وسلامته الجسدية، وعدم انتهاك حرمته وخصوصيته، وعلى رأسها الحق فى التعبير، ولهذا وضعت الاستراتيجية 6 نتائج تستهدفها وهي كالتالي:
● تعزيز الحق فى ممارسة حرية التعبير عن الرأى والتصدى لأية انتهاكات فى إطار الدستور والقوانين المنظمة لذلك، والمراجعة الدورية لتلك القوانين لضمان كفالة ممارسة هذا الحق وفقا للدستور والتزامات مصر الدولية.
● إصدار مدونة سلوك شاملة لكافة أوجه المجالات الإعلامية والصحفية، ومن بينها الإعلام الرقمى ومواقع التواصل الاجتماعى، بما يضمن تنظيم ممارسة حرية التعبير دون التعدى على حريات الآخرين، والاستفادة من التجارب الدولية وفقا للدستور والتزامات مصر الدولية.
● صدور قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات الرسمية وتداولها.
● تعزيز مناخ وثقافة التعددية وتنوع الآراء والرؤى إزاء مختلف القضايا العامة.
● مواصلة جهود الدولة لحماية الإعلاميين والصحفيين أثناء تأديتهم لعملهم فى إطار الدستور والقوانين المنظمة لذلك.
● رفع الوعى المجتمعى بأهمية حرية التعبير، وعقد تدريبات لممارسي الصحافة والإعلام بحدود تلك الحرية وصور الخروج عنها.
القيادة السياسية المصرية تحرص على حماية الصحفيين
تُدرك القيادة السياسية المصرية أهمية حماية حرية التعبير باعتبارها أحد الضمانات الرئيسية لتحقيق متطلبات التنمية، وتُعرب دائمًا عن استعدادها لسماع الرأي الآخر ورفضها لمحاسبة أي شخص على اعتقاده حتى لو كان خاطئا، مشددة فى الوقت ذاته عن خطورة إعلان هذا الاعتقاد الخاطئ للعوام وما قد يترتب عليه من تبعات تمس أمن وسلامة الوطن والمواطنين.
إن دعوة القيادة السياسية إلى إطلاق حوار سياسي شامل مع كل القوى دون استثناء أو تمييز، حوار قائم على أسس الحق في حرية التعبير، يؤكد بما لا يدعو مجالًا للشك أن الدولة المصرية على أعتاب مرحلة سياسية جديدة تتزامن وبناء جمهورية جديدة تحترم حقوق الإنسان، كما يؤكد وفاء القيادة السياسية بتعهداتها في فرض الأمن والاستقرار والمضي قدما فى الإصلاحات الاقتصادية والسياسية ومنح كل الأصوات فرصة التعبير فى ظل أُطر ينظمها الدستور والقانون.
الإفراج عن 3 صحفيين فى عفو رئاسي
هذا وقد أوصت القيادة السياسية مؤخرًا بإعادة تفعيل “لجنة العفو الرئاسي”، والتى بدأت بالفعل عملها وتواصلت مع مختلف الأحزاب والقوى السياسية وأعدت قائمة عاجلة من السجناء المقترح الإفراج عنهم قريبا، مُعلنة عدم استبعاد أي أحد غير مَن تلوثت أيديهم بدماء المصريين، أو المتهمين في قضايا الفساد والتخريب والعنف ضد أبناء مصر وشعبها.
وتجدر الإشارة هنا إلى حصول ثلاثة صحفيين محبوسين احتياطيًا على ذمة بعض القضايا، على العفو الرئاسي، الأمر الذى يؤكد إدارك ووعى القيادة السياسية بأهمية ضمان حرية الصحافة والتعبير.
وعلى الرغم من امتلاك الدولة المصرية ميراثًا ثريًا فى مجال حرية الصحافة، وفى خضم تلك الجهود المبذولة، تظهر وسائل إعلام مغرضة ومنظمات مشبوهة تفتقر إلى أبسط قواعد المهنية، لتدعى أن مؤشر حرية الصحافة فى مصر يشهد تراجعًا كبيرًا وتزعم أن الدولة لا تحترم حرية الصحافة وتفرض القيود على الصحفيين والإعلاميين، والحقيقة أن كل هذا ما هو إلا ادعاءات وأكاذيب يروجون لها تحقيقًا لأغراض دنيئة تستهدف النيل من أمن الوطن واستقراره.
واقع حرية الصحافة فى الدول الغربية
مع التقدم التكنولوجى الهائل والمتسارع الذى شهدته وسائل الإعلام خلال السنوات الأخيرة، كانت التوقعات تُشير إلى أن الدول الكبرى ستكون المثال والنموذج المُلهم للدول النامية والدول الأقل تقدما، فى الحفاظ على حرية الصحافة والصحفيين ولكن واقع الأمر كان مخيبا للآمال.
فقد أشارت الكثير من الممارسات والتقارير والدراسات التى أُجريت فى هذا الشأن إلى تدهور حرية الصحافة فيها خاصة مع تبنى القادة والسياسيين قرارات متشددة تُعيق حرية تدفق المعلومات ووصولها بشفافية للمواطنين وسط أجواء عدائية تُهيئ مناخًا خصبًا للعنف ضد العاملين بالصحافة والإعلام. .
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى دراسة صادرة عن منظمة “فريدم هاوس” عام 2016 والتى كشفت عن أن الصحافة فى دول العالم الغربى تواجه تهديدات غير مسبوقة، حيث صرحت جنيفر دونهام التي أجرت الدراسة بأن “الزعماء السياسيون وغيرهم من القوى الحزبية في العديد من الديموقراطيات ومن بينها الولايات المتحدة وبولندا والفلبين وجنوب إفريقيا، هاجمت مصداقية الإعلام المستقل والصحافة المستندة إلى حقائق، ورفضت الدور التقليدي لهذه الصحافة في المجتمعات الحرة”.
وأشارت الدراسة – التى تناولت واقع الصحافة فى 199 دولة – إلى أن 13% فقط من سكان العالم يتمتعون بـ”صحافة حرة” تكون فيها تغطية الأخبار السياسية قوية وسلامة الصحفيين مضمونة وتدخل الدولة في شئون الإعلام عند أدنى مستوى ولا تخضع فيها الصحافة إلى ضغوط قضائية أو اقتصادية ثقيلة ، مؤكدة على أن 42% من سكان العالم لديهم صحافة “شبه حرة” و45% يعيشون في دول لا يعتبر فيها الإعلام حرا.
أمريكا ..أسطورة حرية الصحافة الزائفة
دائما ما تتباهى الولايات المتحدة بصحافتها الحرة، إلا أن واقع حرية التعبير بها يكشف زيف هذا التباهي، وذلك فى ظل معاناة الصحفيين والإعلاميين من شتى أشكال الاضطهاد على الرغم من أن المادة الأولى من الدستور الأمريكي تضمن حرية التعبير وتحمي حقوق الصحفيين، وفى ظل تأكيد القادة والسياسيين على أن حرية الإعلام والتعبير تُعد مُكونًا أساسيًا للنظام الأمريكي الديمقراطي، وتعكس مدى انفتاح النظام السياسي وسماحه بمراقبة أدائه واستعداده للخضوع للمساءلة.
رؤساء أمريكا..وحجب الآراء المعارضة
والمراقب عن كثب لواقع حرية الصحافة فى الولايات المتحدة يجد أن بذور الكراهية والعداء تجاه الصحفيين زُرعت منذ عقود طويلة، فالرؤساء الأمريكيون المتعاقبون منذ عهد جون آدمز وحتى يومنا هذا، اتخذوا تدابير مجحفة أدت إلى حجب الآراء المعارضة وقمع التعبير عن الآراء التي كانوا يرونها لا تخدم مصالحهم السياسية، مما جعل حرية الصحافة فى أدنى مستوياتها خاصة فى ظل حكم دونالد ترامب الذى جعل الأمر أسوأ بشكل غير مسبوق، فها هو جويل سيمون، المدير التنفيذي للجنة حماية الصحفيين، يُصرح بأن “ترامب استغل العداء الذي كان موجودًا بالفعل تجاه الصحفيين وقام بمفاقمته”..
لقد كان ترامب شديد الكراهية للصحافة والاستخفاف بعمل وسائل الإعلام، ولطالما وصفها بأنها تبث أخبارًا زائفة، وكان دائم الانتقاد والإهانة للصحفيين، لدرجة جعلت الصحف الأمريكية تعتبر أن اتجاهات ترامب المعادية للصحافة تُشكل فى حد ذاتها نموذجًا يمكن أن يحتذيه القادة المستبدين فى العالم بأسره.
كما أكدت رئيسة تحرير “بافلو نيوز” مارجريت سوليفان أن هجوم ترامب مهد الطريق أمام اعتداءات الشرطة والشعب على الصحفيين، وذلك عقب اندلاع الاحتجاجات المناهضة لعنصرية الشرطة التى أودت بحياة جورج فلويد، حيث تعرض وقتها الصحفيون الأمريكيون للاعتداءات والمضايقات والاعتقال والتوقيف أثناء تغطيتهم لتلك الاحتجاجات.
فقد سجل موقع “يو إس برس فريدوم تراكر” الذي يحصي الاعتداءات على حرية الصحافة في الولايات المتحدة، أكثر من 300 “حادث ضد حرية الصحافة” منذ بداية تلك الاحتجاجات فى 26 مايو وحتى 4 يونيو 2020 من بينهم 49 عملية توقيف و192 اعتداء و69 هجوما جسديا بينها 43 على يد عناصر الشرطة.
وعليه، أصدر خبيران في مجال مراقبة حرية التعبير في الأمم المتحدة ولجنة الدول الأميركية لحقوق الإنسان، ديفيد كاي وإيدسون لانزا، بيانًا مشتركًا يحث السلطات الفيدرالية والمحلية على منح الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام أعلى درجات الحماية حتى يتمكنوا من القيام بعملهم بحرية، والامتناع عن استخدام القوة أو التلويح بها ضد الصحفيين وحماية الصحفيين من أي عنف يمارسه طرف ثالث.
وكان الخبيران قد أعربا فى عام 2019 عن “مخاوف خطيرة” من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب والتي استمرت على مدى أعوام، التي تصف الإعلام بأنه “عدو الشعب” وتساهم في بيئة من العداء وعدم التسامح وقالا في البيان “إن هجومه استراتيجي ومُصمم لتقويض الثقة في الصحافة وإثارة الشكوك حول الحقائق التي يمكن التحقق منها”.
تراجع حرية الصحافة فى بريطانيا …أقدم ديمقراطيات العالم
لم يختلف وضع حرية الصحافة والتعبير فى بريطانيا عن الولايات المتحدة الأمريكية، فكلاهما يدعيان أنهما معقلا للحرية والديمقراطية فى العالم والواقع يشير إلى تراجع غير مسبوق فى حرية الرأى والتعبير، وكانت صحيفة «الإندبندنت» البريطانية قد نشرت تقريرا كتبته هارييت أجيرهوم عام 2018 يشير إلى تفاقم مناخ العداء فى بريطانيا تجاه الصحفيين وتطبيق قوانين جديدة على وسائل الإعلام والتي من شأنها تهديد الصحفيين والحد من قدرة وسائل الإعلام على محاسبة المؤسسات القوية.
قانون بريطاني يسمح بسجن الصحفيين إذا “أحرجوا الحكومة”
وازداد الوضع سوءًا فى بريطانيا بعد طرح مقترح التعديلات على قانون سرية المعلومات لعام 1989 والذى يُمكن أن يجرم الصحفيين ويسمح بسجنهم حال تسريبهم لمعلومات “تحرج الحكومة”، حيث يتم اعتبار الصحفي وفقا لتعديل القانون “جاسوس لدولة أجنبية”، على أن تلغي التعديلات حق الدفاع في استخدام مبرر “المصلحة العامة” للنشر وكذلك رفع حد السجن عامين الموجود حالياً في القانون إلى عقوبة قد تصل إلى 14 عاماً. .
وقد شهد مقترح القانون موجة استياء وغضب شديد من قبل الصحفيين والعاملين فى مجال الإعلام الذين يرون فى هذا القانون عودة إلى العصور الديكتاتورية وتقويضًا حقيقيًا لحرية التعبير، هذا وقد أصدرت رابطة الناشرين فى بريطانيا بيانًا شديد اللهجة حذرت فيه من استهداف حرية الرأي وحق الجماهير في معرفة ما قد تخفيه الحكومة ، فيما انتقدت نقابة الصحافيين البريطانيين هذه التعديلات واعتبرتها تهديدًا يستهدف القضاء على الصحافة الاستقصائية ومصادر معلومات الصحفيين.
حرية التعبير فى فرنسا وسياسة الكيل بمكيالين!
شهدت السنوات الأخيرة ممارسات سياسية وعنصرية تقوض حرية الرأى والتعبير، وتتناقض مع الدفاع المستميت عن حرية الصحافة والذى يُروج له القادة والسياسيون الفرنسيون، ففى الوقت الذى يتم الدفاع فيه عن حق أحد الأشخاص فى نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للنبى (ص)، والتأكيد على أن منع النشر يُشكل مخالفة صريحة لمبادىء الجمهورية الفرنسية فى حماية حق التعبير، تُدين المحكمة الفرنسية رجلين بتهمة “الازدراء” بعد أن أحرقا دمية تمثل الرئيس إيمانويل ماكرون خلال مظاهرة سلمية عام 2019.
هذا وقد أصيب عشرات وقد يكون مئات من الصحفيين خلال التظاهرات الاحتجاجية لحركة “السترات الصفراء”، حيث تم الاعتداء عليهم من قبل قوات الأمن الفرنسي التى صادرت معدات الحماية التي كانت بحوزتهم؛ ما عرضهم لمخاطر جسدية أثناء تغطية الاحتجاجات، فضلا عن قيام بعض المتظاهرين بالاعتداء عليهم أيضا.
كما تشهد المحاكم الفرنسية فى كل عام إدانة لآلاف الأشخاص بتُهمة “ ازدراء الموظفين العموميين”، وهي جريمة جنائية مُعرَّفة بشكل غامض وطبقتها السلطات الفرنسية لإنفاذ القانون والسلطات القضائية بأعداد كبيرة للقضاء على المعارضة السلمية.
إن مبادىء وقوانين الجمهورية الفرنسية فيما يتعلق بحماية حرية التعبير لا تُطبق فقط إلا على المسلمين ولا تحمى رموزهم ومعتقداتهم الدينية ولكنها تحمى فى الوقت ذاته القادة والسياسيين وتجرم نقدهم أوحتى الاقتراب منهم .
حرية الصحافة فى خطر ..
لا شك أن واقعنا المعاصر يشهد العديد من التحديات الهائلة، فبعد أن ألقت جائحة كورونا بظلالها القاتمة على العالم بأسره، جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتفرض واقعا عالميا أكثر قتامة أصبحت فيه مؤشرات تدهور حالة حرية الصحافة ظاهرة للعيان.. ولكن هذا الواقع يفرض العديد من التساؤلات حول مستقبل حرية وشفافية تداول المعلومات، وحول ما يمكن أن يُفرض من قيود أخرى على الصحافة فى دول العالم بدعوى حماية الأمن القومى وتحقيق المصلحة العامة.. فإذا كانت حرية الصحافة تتعرض لهذه القيود والانتهاكات فيما يُطلق عليها كبرى ديمقراطيات العالم، فكيف هو الحال فى دول العالم الثالث النامية؟!