مقالات

النصف الفارغ ..!

بقلم :أ.د/صلاح هاشم

 اعتاد الناس على تشبيه التشاؤم بالنظر إلى نصف الكوب الفارغ، وكأن الفراغ دليل قاطع على التشاؤم .. لكننى دائماً لا أخذ الأمثال الشعبية على علتها، فكثير من هذه الأمثال فاسدة .. تفتقد  في أحايين كثيرة إلى المنطق .. ولعل اعتياد الناس على الاستسهال وعدم استخدام العقل فيما يتداولونه من أمثال ما ساهم فى تحويل الأمثال الشعبية السطحية إلى حِكمٍ،  والحكمة هى خلاصة تجربة الشعوب ..!

وبما أنني قد اعترفت من البداية بأنني لا أقبل الأمثال على علتها؛ فقد وقفت كثيراً أمام هذا المثل الشعبي العجيب، الذي يدعونا إلى عدم النظر إلى نصف الكوب الفارغ ..  والاكتفاء بالنظر فقط إلى الممتلئ .. وهنا تساءلت: هل الفراغ في ذاته سُبة تُعيق تطور الإنسان ونموه، أم أنه فرصة أكيدة للتنمية والتطوير .. وهل النظر إلى النصف الممتلئ وحده يدعونا إلى التفاؤل ..؟ فإلى أيهما  إذن يجب أن ننظر..؟! أم  أننا مطالبون بأن ننظر إلى الاثنين معاً..؟!

وبما أنني أيضاً على قناعة تامة بأننا نتعلم دائما من معرفة سلبياتنا وليس من الإيجابيات .. وأن النقد الكاشف للنواقص والعيوب هو نقد بناء فى ذاته .. أم النقد الذى يركز على الإيجابيات فقط هو نقد هدام .. وأن رؤية النواقص في الأشياء والحيد عنها فساد .. فالمجتمعات تُبنى بالعقول الناقدة .. التى تنظر دائماً إلى مواضع النقص والخلل وتعمل جاهدة على إصلاحها .. !

وحين يغض الإنسان الطرف عن نواقصه يعتاد عليها، بل وربما يعادى من يذكره بها .. فقد يألف الإنسان النقص، ويجهل الكمال .. ومن جهل الكمال عاداه ..! 

ومن هنا أخذتني فكرة الكتابة عن الفراغ وأهمية مناطق النقص فى حياتنا .. انطلقاً من قناعتي بأن الكون قد بني على النقص وليس الكمال .. وأن من قواعد العيش أن يكمل بعضنا الأخر، حسب نظرية تبادل المنفعة فى علم الاقتصاد .. وكذلك قناعتي بأنه إذا أسعفت الإنسان المنية لا تسعفه الإمكانات .. وإذا أسعفته الإمكانات لا تسعفه المنية. ويموت الإنسان ناقصاً ويظل الكمال لله ..!

ولعل هذه القناعات هى ما جعلتني أرفض فكرة الكوب الفارغ واعتباره رمزاً للإحباط وثبط الهمم .. فهل يمكن للإنسان مثلاً أن يبنى بيتًا أو  يجرى نهراً أو أن يزرع بستاناً دون فراغ .. وهل يمكن للإنسان أن يحلم دون فراغ .. وإذا كان الفراغ هو المساحة المشتركة بين الواقع و الخيال؛ فهل يمكن للإنسان أن يتخيل أنه يبنى منتجعا سياحياً في منطقة متخمة بالسكان، لا تتجاوز شوارعها بضعة أمتار إلا إذا هدمها ليخلق لنفسه مساحة من الفراغ  .. فعادة ما يحتاج البَنَّاءُ إلى فراغ يحقق فيه خياله الهندسي ..؟! والبناء دائماً يحتاج إلى فراغ .. فتحية للبنائين في هذا العالم المزدحم الكئيب الذى يفتقر إلى مساحة من الفراغ كي ينجو من السقوط..!

ولعلي أتصور أن فكر الاستعمار الاستيطاني نفسه كان وليد نظرية الفراغ .. فحين تعج المجتمعات بالسكان وتحدث ظاهرة الاختناق يفر الناس إلي الصحراء بحثاً عن الفراغ الذى يمكنهم من بناء مجتمعات جديدة، تتناسب مع أعداد سكانها المتزايدة .. فالمجتمعات الإنسانية عادة لا تتمدد سوى فى فراغ؛ والذى عليه يحدث التوسع والانتشار؛ الذى هو دليل قاطع على التنمية .. وكلما كانت مساحة الفراغ واسعة؛ كانت الفرصة للتنمية والعمران سانحة ..!

ربما كانت هذه هى رؤية فلسفية بحتة قد يقبلها البعض ويرفضها البعض الآخر. لذا أحاول أن أقترب إلى المنطق العملي من خلال التركيز على فكر الاستعمار الاستيطاني وكيف تحول من غزو الأرض إلى غزو العقل .. وكيف أصبح غزو العقل طريقا سهلاً لغزو الأرض .. الغزو الثقافي الذى دمر بلداناً كاملة تحت شعار الغزو الأبيض أو الثورات البيضاء ..!

وهنا أتساءل لماذا سيناء دائماً كانت ولا تزال مطمعاً للفكر الاستعماري الرخيص .. والإجابة كانت وفق نظرية الفراغ حاضرة .. لأن سيناء منطقة فارغة، تجاور مجتمعات مزدحمة بالسكان، بل كادت أن تنفجر.. فمساحة الأرض في اسرائيل عندها ثابتة. وهى المساحة التى نجحت في اقتطاعها من جسد فلسطين الحي. وأن أعداد السكان  فيها تتضاعف يوماً بعد يوم .. ومع تصاعد المشكلة وعدم قدرتها على التمدد في العمق الفلسطيني، أمام مقاومة الشعب الفلسطيني الباسل والمؤمن بحقه التاريخي في أرضه؛ تصبح سيناء  بالنسبة لإسرائيل هي الحلم .. والطريق السهل للخلاص من الأزمة .. ومن ثم فإن أزمتنا مع اسرائيل لن تنتهي ما دامت أرض سيناء فارغة ..!

وإذا كانت الإحصائيات تشير إلى أن المصريين لا يستغلون سوى  6,5% من مساحة مصر .. فإن سيناء وحدها تكفى إذا انتفى لدى المصريين الحلم في غدٍ أفضل حيث لا يوجد لديها مساحات من الفراغ. فالمساحة الجغرافية لسيناء تجاوزت 7 % من المساحة الكلية لمصر .. ومن ثم فإن خلاصنا من الجماعات الإرهابية التى تحاول دائماً مدعومة من إسرائيل في إقامة دولتها على أرض سيناء مرهون بقدرنا على إعمار الأراضي السينائية الفارغة، وزراعتها بالقمح والملح والسكر والناس ..؟!

إذن الفراغ بالنسبة لإسرائيل ومثيلاتها هو الأمل الوحيد لتحقيق الحلم في إقامة دولة إسرائيل التى تمتد من النيل إلى الفرات.. .  ومن ثم يصبح الإعمار وشغل الفراغ  واجب وطني أصيل للخلاص من كابوس مطامع إسرائيل في التمدد من ناحية، والقضاء على الجماعات الإرهابية من ناحية ثانية ..!

عفواً فقد أخذني القلم إلى القضية الأكبر حيث تحدثت عن فراغ الأرض وعلاقته بالفكر الاستيطاني ،الذى لا تزال  تنتهجه اسرائيل رغم إثبات فشله عبر التاريخ ؛ بفعل مقاومة العقل الرافض للفكر الاستعماري .. الأمر الذي دفعها بقوة إلى التخطيط لغزو العقل .. وساعدها في ذلك التقدم التكنولوجي ووسائل الاتصال وكذلك التراجع في نظم التعليم والثقافة، الذي ساهم بدوره في تهميش العقل،  والفساد الذي حفز  على هجرة العقول المبدعة..!

ومن هنا كيف لنا أن نستهين بالفراغ، ونكتفى بالنصف الشاغل في الكوب، الذى إن ارتضينا به اكتفينا، وكأنه رزق ، و عدم القناعة به درب من دروب السخط .. فإذا كنا لا نستطيع قياس حجم ما نحتاج سوى بالنظر إلى المساحة الفارغة، ولا نستطيع أن نمدد أقدامنا سوى فى فراغ، ولا نستطيع أن نتعلم سوى فى فراغ .. فكيف لنا إذن أن نلعن الفراغ .. ؟!

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى