مقالات

الثقافة والاقتصاد..نحو علاقة جديدة وتنمية متبادلة

بقلم: د/ هيثم الحاج علي

تقوم الدساتير العربية خاصة في نصوصها التي تتعلق بالثقافة على فكرة نبيلة في جوهرها، فحواها أن الثقافة خدمة تحتاج إلى كامل رعاية الدول والأنظمة، وهي الفكرة التي تحكمت في بناء المؤسسات الحكومية التي تتعامل في الثقافة، وذلك ما يمكن أن نضرب عليه أمثلة من الدستور المصري، حيث تشير المادة 48 إلى أن: “الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز”.

وهو الأمر الذي يتكرر في دستور الكويت، حيث تنص المادة 14على أن: “ترعى الدولة العلوم والآداب والفنون وتشجع البحث العلمي”.

والملاحظ في الخطاب السائد هاهنا، وفي غير هذين المثالين من الدساتير أن فكرة الكفالة والرعاية هي السائدة، وهي الفكرة التي تجعل من المنتج الثقافي قاصرا يستحق رعاية الدول، وهو الأمر الذي تتحكم فيه ظروف كثيرة، منها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والاقتصادي عبر عصور ممتدة، وهي الظروف التي تغير كثير منها الآن بما يحتم علينا التوقف عند هذه الرؤية، وإعادة تمحيصها، وبناء رؤية جديدة للعلاقة بين المؤسسات الحكومية، والثقافة ومنتجيها ومتلقيها.

  • في مفهوم الثقافة:

لا يمكن حصر مفهوم الثقافة – كما هو سائد على المستوى الشعبي والإعلامي – فقط في كم المعلومات التي يمكن للفرد أن يستوعبها، أو يستظهرها كما تحاول وسائل الإعلام أن تروج، ولا حتى في الإبداع بمختلف فنونه، ولا حتى في المعرفة أو التفلسف.

 الثقافة في الأساس مفهوم يتكئ على وعي الإنسان بذاته، وتطويره لهذا الوعي لكي يكون وعيا ذا وجهة نظر خاصة للعالم، وهو الأمر الذي تجلى في تعريف لسان العرب بالثقافة حين أشار إلى أن: التعبير (“ثقف نفسه” أي صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري, وقد اشتقت هذه الكلمة منه، حيث إن المثقف يقوّم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه).

 ولعل الاشتقاق الإنجليزي من مادة لغوية لها علاقة بالزراعة غير بعيد عن هذا المعنى، وإن توسع التعريف بها لتشمل الفنون وغيرها من مظاهر الإنجاز الفكري الإنساني، في إشارة إلى أهمية الوعي ودوام الممارسة للوصول إلى نتيجة واضحة ليست مجرد نتيجة لصدفة ما، وهو المفهوم الذي يمكن أن ينسحب على المجتمع – ولا يقف عند حدود وعي الفرد – حين يمكن النظر إلى ثقافة المجتمع بوصفها: الأسس المعرفية والإبداعية التي يمكن للمجتمع أن يرتكز عليها حين يحاول تقويم نفسه، وحين يبدأ في التعبير عن هويته الخاصة.

من ناحية أخرى فإن اقتران الثقافة بالمعرفة يتم على مستويات ثلاث هي: إنتاج المعرفة، ونقل المعرفة، وتلقي المعرفة، وهو الأمر الذي يمكن حصر المثقف عن طريقه في سمة منتج المعرفة، وهو المستوى الذي يمثل ذروة الثقافة، أو من يمكن اعتبار المنتمي إليه منتميا إلى النخبة الثقافية، أيا كان نوع المعرفة التي ينتجها أدبية كانت أو علمية.

غير أنه من الضروري هنا الإلماح إلى أنه – في مجال حديثنا – تزول الحدود بين الفنون الإبداعية الأدبية والفكرية والقولية من ناحية، وبين الصناعات الثقافية الرسمية منها والشعبية، ليتسع مفهوم الثقافة هنا ليشمل هذه الجوانب كافة.

  • في معنى الثقافة العربية والنظر إليها:

وقد ظلت الثقافة العربية ركنا أصيلا من أركان المجتمع العربي منذ بدء العلم به والتأريخ له، وقد كان العرب في عصورهم الأولى يعلون من شأن الثقافة والعلم والإبداع حسبما أتاحت لهم ظروفهم التاريخية، إلى أن هيأ الله لهم الإسلام الذي وحد رؤاهم ورسخ هويتهم الخاصة، ودشن دولتهم التي كان قوامها الأساسي متمثلا في المعرفة التي أتاحت لهم بناء حضارتهم ووعيهم الخاص بذواتهم.

وإذا كان من الممكن النظر إلى بعض صنوف الإبداع بوصفها معبرة عن الهوية العربية الجمعية – كالشعر مثلا – حيث الشعر ديوان العرب الجامع لأمثالهم وأيامهم وكافة مناحي حياتهم، فإن التاريخ يحفظ لنا من المقولات ما يعبر عن عدم حصر الوعي بالجمال على الشعر مثل قول المعري :

فالحسن يظهر في شيئين رونقه       بيت من الشعر أو بيت من الشعر

مثل هذه المقولات تجعل من النظر إلى صنوف الإبداع المختلفة بوصفها ركنا أصيلا في معرفة العرب بذواتهم، بل ركنا مهما من أركان حياتهم بما في ذلك الدعاية للقبيلة أو الحزب السياسي، غير أن التطور الواضح في النظر إلى مثل تلك الفنون قد وافق قيام الدولة الأموية، ومن بعدها العباسية حين صار الشعر مصدرا للتكسب، عندما صار كبار الشعراء يشتغلون بالشعر في بلاط الخلفاء والأمراء، وهو الأمر الذي توافق مع اهتمام كبير بالعلوم والترجمة حتى صارت وظائف يدر عليها الأمراء والحكام من أموالهم ومن بيوت المال، في تجل أول للمردود الاقتصادي على الأفراد المشتغلين بالثقافة، وإن اقتصرت الفائدة على مثل هذه الحالات ولم تتجل في حالة اقتصادية عامة.

وقد بقيت الثقافة داخل هذا الإطار الذي تقلص مع تفكك الدولة العربية، إلى أن صارت تعامل المبدعين بوصفهم أبناء هامش تعبيري خارج على الأنساق المجتمعية العربية، وهو الأمر الذي توافق مع انهيار أسس الحضارة العربية في العصور الوسطى، كما توافق مع تضييق مفهوم الثقافة لتصبح محصورة في الفنون القولية دونما النظر إلى مجموعات من الفنون والصناعات التي تعبر بالضرورة عن الهوية، وهو – في ظني – السبب الأساسي في اعتبار الثقافة مجرد نتاجات لتأملات خيالية بعيدة عن الواقع، وهي الرؤية العامة لدى الشعوب العربية منذ بدايات العصور الحديثة.

للثقافة إذن دورها المعتبر والمتفق عليه في بناء الحضارات، وفي ترسيخ هوية المجتمعات والتعبير عنها، كما أنها تصبح في بعض الأحيان صنعة المثقفين والمبدعين، وربما يسهم الظرف التاريخي في جعل هذه الصنعة تتحول إلى صناعة بالمفهوم الاقتصادي، كما حدث مثلا في صناعة السينما في مصر منذ الثلث الأول من القرن العشرين، غير أنها تبقى صناعة ذات طبيعة خاصة يظل نظر المجتمع لها نابعا من كونها – في نظره بالطبع – تقبع في درجة أدنى من الصناعات الحقيقية التي تنتج سلعا استهلاكية أو معمرة.

  • الثقافة والدعم الاقتصادي الحكومي:

من هنا تم التعامل على المستوى الاقتصادي مع مثل هذه الصناعات بوصفها خدمات يجب على الدولة أن تدعمها كما كان يفعل الخلفاء والحكام مع الشعراء والعلماء، مرة لتزيين الصورة ومرة لأهمية غامضة تجعلها بالنسبة إليهم واجبا ربما يتعاملون معه على أنه واجب ثقيل أحيانا ومزعج أحيانا، وواجب غير مبرر في كثير من الأحيان إلا تبعا لتلك الأهمية الغامضة والثابتة.

فكانت تجربة مصر في دعم صناعة السينما عن طريق إنشاء مؤسسة السينما، ثم عن طريق إنشاء وزارة للثقافة بدت وظيفتها الأساسية تعويض المجتمع عن فترات طويلة من التهميش الثقافي وإن كان لها أهداف أخرى تمثلت في التوجيه والإرشاد رغبة في خلق نمط المواطن الواعي الصالح الــ (مثقف)، وهي الوزارة التي نمت عبر نصف قرن تقريبا لتشمل مجموعة من القطاعات التي تعمل في كل مجالات العمل الثقافي من مسرح وسينما وأوبرا وفنون تشكيلية ونشر وإنتاج فني، بالإضافة إلى التخطيط الثقافي والعمل الجماهيري، ولتصبح بذلك نموذجا للعمل الحكومي في مجال الثقافة يتم الاحتذاء به في باقي الدول العربية، وإن كانت بصور مختلفة تختلف تبعا للأولويات التي تضعها لنفسها كل دولة، وعلى اختلاف درجات الاهتمام من دولة إلى أخرى، بل ومن وقت إلى آخر تبعا لظروف تاريخية وجغرافية واقتصادية وثقافية كذلك.

لكن التغير الأهم في النظرة العالمية إلى الثقافة بوصفها صناعة حقيقية مكتملة العناصر يمكنها أن تُدر دخلا قوميا للدول بالإضافة إلى كونها خدمة، لكن الأهم في تلك المناحي كلها هو اعتمادها على الفرد بوصفه العنصر الأهم في تلك الصناعة، بوصفه منتجا وبصفته متلقيا مستهدفا.

لدينا إذن إشكال واضح يتجلى في اختلاف النظر إلى إمكاناتنا الثقافية واحتمالات تطوير طرق الاستفادة منها، ليس فقط على مستوى الوعي بالذات والهوية، ولكن كذلك على مستوى تحقيق فوائد متنوعة منها الفوائد الاقتصادية للثقافة.

  • الثقافة والتنمية الاقتصادية:

تتعامل الشعوب والحكومات العربية مع الثقافة كما أسلفنا بوصفها خدمة تقدمها الحكومات لشعوبها، وتقوم بدعمها لتكون بذلك عالة على ميزانيات الحكومات وهي تقع في الغالب في ذيل الاهتمامات المالية لواضعي الميزانيات الحكومية العربية، على اعتبار أن الحاجة إليها ليست طارئة مثل غيرها من المصارف، وهو الأمر الذي أدى إلى تباطؤ معدلات نمو المجالات الثقافية في البلدان العربية، أو معظمها على الأقل، واعتمادها في كثير من الأحيان على قدرات المثقفين والمبدعين أنفسهم، ودأبهم على العمل في مجالها، وإمكاناتهم الخاصة في إقناع الحكام أو أصحاب الأموال بأهمية تمويل الأنشطة الثقافية.

غير أنه في عديد من بلدان العالم اتخذت الثقافة موقعا مهما بوصفها موردا من موارد الدخل القومي، فعلى سبيل المثال تعد الصناعات الثقافية في المملكة المتحدة، التي ضربت مثلا في استغلال الموارد الثقافية وتنميتها، حيث بلغت عوائد الصناعات الإبداعية لديها في عام 2001 حوالي 112.5 مليار جنيه استرليني، ومثلت صادراتها من الصناعات نفسها حوالي 10.3 مليار جنيه استرليني بما يعادل حوالي 5% من الناتج القومي الإجمالي للمملكة المتحدة.

وليس المطلوب بالطبع الاستنساخ الكامل للتجربة الإنجليزية، وإن وجبت الاستفادة من مفاهيمها الأساسية المعتمدة على تنمية الصناعات الثقافية، بوصفها خالقة لفرص العمل، ومحققة لتفرد الهوية، بالإضافة إلى دورها الاقتصادي الواضح الذي يؤكد إمكان الاعتماد على المنتج الثقافي بوصفه منتجا مجتمعيا كامل الوجود على خريطة الاقتصاد القومي.

ويمكن لنا اقتراح مجموعة من المحاور التي تستطيع من خلالها الثقافة القيام بهذا الدور والتي يمكن أن يكون من أهمها:

أولا: التحول من نمط الراعي الداعم إلى نمط المنسق المتيح

قامت المؤسسات الثقافية الحكومية العربية منذ بداية نشأتها على فكرة التوجيه والإرشاد، وربما ارتبط ذلك بطبيعة الصحافة العربية منذ بداياتها في أواخر القرن التاسع عشر حين كانت تتوجه بالخطاب إلى مجتمعات تعاني في الأساس من الأمية واعتمدت في توصيل خطابها على المتعلمين الذين يقرؤون للآخرين، وهو الأمر الذي تلازم مع خطاب توجيه اجتماعي يحاول الحفاظ على قيم الطبقة الوسطى الناشئة في ذلك الحين.

لكن التحولات التي طرأت على أنماط الثقافة العالمية منذ القرن العشرين، منذ بداية ظهور أنماط الثقافة المسموعة في الإذاعة، ثم المرئية من خلال السينما والتليفزيون، ثم مع الانفتاح الطارئ بين الثقافات مع ظهور الأقمار الصناعية ثم شبكة الإنترنت، كل هذه التحولات غيرت من طبيعة الخط الفوقي الواصل بين مرسل الرسالة الثقافية ومستقبلها، بحيث صارت الرسالة تفاعلية مفتوحة على خطابات متعددة، وصار المتلقي ذا تفكير نقدي لا يستقبل الرسالة كما هي.

كل ذلك يحتم على تلك المؤسسات الثقافية أن تغير من طبيعة بنيتها الفكرية والعملية لتتحول من التوجيه والإرشاد إلى الإتاحة والتنوع، وهو ما يفرض عليها ألا تمتلك أدوات الإنتاج الثقافي التي سوف تصبح قاصرة عن أداء مهامها نظرا لطبيعة التنافسات الفردية، وتبدأ في تكوين غرض آخر يقوم على أساس كونها منسقة للمكونات الثقافية الموجودة فعلا في المجتمع، ذلك التنسيق الإيجابي الذي يهدف إلى الحفاظ على المكون الثقافي كما هو دون تدخل بوجهة نظر سياسية أو حتى اجتماعية، كما يهدف إلى توصيل المكون الثقافي من منتجه إلى متلقيه.

إن انسحاب المؤسسات بهذه الصورة من عملية الإنتاج الثقافي يضمن عدة أشياء أهمها عدم تغيير المنتج الثقافي لصالح أي توجه طارئ، وبقاؤه أصيلا معبرا عن الهوية الثقافية لمنتجه، كما أنه من ناحية أخرى يعد مواجهة حقيقية، وإن بدت صعوباتها شديدة الوطأة، لأفكار هي مطروحة بالفعل على الفضاء السيبراني، وتصل لمتلقيها بسهولة شديدة دون أي تدخل، وخير مثال على ذلك أن أي منع لمنتج ثقافي هو الوسيلة الأكثر نجاحا لانتشار هذا المنتج.

من هنا يأتي وجوب التحول في الرؤى الحكومية لتستطيع القيام بدورها في الرعاية المطلوبة للمكونات الثقافية ومنتجيها ولتقدر بالفعل على توفير ضمانات وصول هذه المكونات إلى متلقيها الطبيعي والمفترض، وهذا التركيز على دور المنسق سيتيح الفرصة لهذه المؤسسات لتوفير طاقاتها الموجهة إلى الإنتاج لكي يتم الاستفادة بها كاملة في أداء دورها الطبيعي المنوط بها، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الرؤية ستؤدي إلى التخلي عن الرؤى المركزية التي توافقت مع دور المنتج لصالح الهوامش والحدود، مما سيؤدي إلى جعل المكونات الثقافية منتجا أساسيا في المجتمع يخلق لأجزائه مصالحهم الخاصة فيه، وينمي الشعور بالانتماء إليه نتيجة لتنامي الإحساس بالاهتمام والرفاهية.

ثانيا: توسيع أفق التعاون المتكافئ مع الأفراد ومنظمات المجتمع المدني

يرتبط بالرؤية السابقة ما يمكن اعتباره تعاونا خلاقا بين المؤسسة وكل ما يمكن تصنيفه بأنه منتج للثقافة أو المعرفة، وإتاحة الفرص لهولاء الأفراد أن يعملوا بحرية تُتيح لهم الانطلاق في أفق الإبداع، وهو الدور الأصلي الذي كان من المفترض أن تكون عليه المؤسسات، كما أن هذه الرؤية تتفق مع التطور الحادث في نمط الثقافة العالمي الناتج عن وسائط الاتصال الحديثة التي ركزت على فردانية الثقافة كنتاج من نواتج العولمة ووسائطها، كما أنها تضمن كذلك الحفاظ على هوية المجتمع لا عن طريق تجميدها، ولكن عن طريق المرونة في التعامل مع مكوناتها.

وعلى نفس الدرجة من الوجوب، يكون على المؤسسات البعد عن محاولات تدجين المثقف ومنتج المعرفة والإبداع لصالحها، بل يكون الغرض الأساسي من ذلك التعاون هو الإتاحة للاتجاه والاتجاه المختلف، والحفاظ على المثقف وشخصيته التي أتاحت له إنتاج مشروعه الخاص، وربما يكون لنا في المناظرات العلمية والفكرية التي شاعت في العصر العباسي بوصفها معبرا أصيلا عن عضوية هذه المعرفة، وهو ما بدا في اهتمام العامة بها على اختلاف مناحيها، كما أنها من ناحية أخرى كان لها إسهامها الكبير في الحضارة العربية عن طريق تأصيل فكرة قبول الاختلاف، وهو ما ميز تلك الحضارة وعبر عن قوتها في ذلك العصر.

ومن ناحية أخرى وعلى الدرجة نفسها من الأهمية فإن ظهور الكيانات العاملة بالثقافة والمهتمة بها مع استقلالها عن المؤسسة يعد واحدا من أهم مظاهر الثقافة الحديثة، وهذه الكيانات بعضها احترافي مثل شركات الإنتاج السينمائي والدرامي والغنائي والمسرحي، ودور النشر الخاصة، والجرائد المستقلة، وهذا النوع يهدف ضمن أهدافه إلى تحقيق ربح يُمكن هذه الكيانات من أداء الرسالة المنوطة بها، وبعضها الآخر لا يهدف للربح، ويعتمد على الاهتمام والتطوع من قبل الأفراد المهتمين بمجالاتها.

وأيا كان الأمر، فإن أيا من النوعين يحتاج إلى العمل على تمهيد الطريق أمامه للعمل، سواء عن طريق تعديل القوانين واللوائح الحكومية لتصبح أكثر مرونة في التعامل مع مجالات أنشطتها، مثل قوانين الجمارك مثلا، بحيث تزيد المرونة في التعامل مع مكونات إنتاج الكتب مثلا من ورق وأدوات طباعة، ناهيك عن الصناعات الأخرى، وعلى الدرجة نفسها قوانين الضرائب وغيرها، مما يتحتم تعديله طبقا لهذه الرؤية، بحيث تكون المؤسسات شريكا متعاونا في هذه الصناعات، بما لا يؤثر على توجهاتها، وبما يحفظ التكافؤ في العلاقة بين تلك الكيانات والمؤسسات الرسمية، وهو الأمر الضروري للحفاظ على قوة هذه المنتجات ومنافستها في أسواق الصناعات الثقافية تبعا للاعتماد على رؤى مبدعة واحترافية يتم تذليل العقبات وإزالتها من طريقها.

ثالثا: الاعتماد على المعلومات في إنشاء خطط دعم بالرؤية الجديدة

تمتلك مجتمعاتنا العربية العديد من العناصر التي تعد مكونات ثقافية، منها ما يعد ثقافيا خالصا، ومنها ما يدخل في باب الصناعات، كما تحتوي على مهارات فردية بعضها يحتاج إلى تدريب، أو إلى أنواع مختلفة من الدعم، وهو ما يمكن أن تقدمه المؤسسات الحكومية، شريطة توافر معلومات تتيح لهذه المؤسسات التخطيط الجيد للحالة الثقافية.

غير أن العمل الثقافي العربي يعاني عموما من مشكلة نقص المعلومات، حيث يعد من الصعوبة بمكان الحديث بدقة عن مكونات المشهد الثقافي العربي أو في أي من دوله، وحيث لا توجد إحصاءات دقيقة عما يحدث داخل ذلك المشهد، بل مجرد رؤى وإحصاءات عامة، لا يمكنها أن تكون أساسا حقيقيا للتنمية.

 وإذا كان التطور المعرفي الأساسي في القرن العشرين يتمثل في التحول إلى المعرفة الرقمية بما تمثله من فيض معلوماتي ناتج عن التراكمات الأساسية المتعاقبة على أنماط المعارف السابقة، كما هو ناتج عن سهولة الاتصال بين مصادر المعلومات ومتلقيها، بما يجعلنا في قلب عصر المعلومات، فإن كل ذلك يمكنه أن يمنحنا رؤية واضحة عن القصور الذي تعاني منه نماذج العمل العربية حين تفتقر إلى المعلومات الدقيقة عن مجالاتها، لا سيما فيما يتعلق بالثقافة.

وعلى ذلك فإن الإجراء الأكثر أهمية يتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه “خريطة الحالة الثقافية”، وهي خريطة تفاعلية – أو يجب أن تكون كذلك – تعتمد على بيانات إحصائية دقيقة تحصر فعليا ما يوجد من منتجات ثقافية في بقاع – مدن وقرى – كل دولة، وتستغل فيها كل الإمكانات الإحصائية للدولة بما يمكنها من تحقيق الإحصاء الدقيق لكل هذه المكونات، ووضعها جميعا قيد الاسترجاع اعتمادا على البقع الجغرافية، بحيث يمكن رؤية كل الإمكانات الثقافية في كل مكان على حدة.

ومع توسيع مفهوم الثقافة ليشمل كل ما يمكن اعتباره نتاجا إبداعيا أو فكريا، فإن هذه الخريطة ستكون معبرة عن مجموعة كبيرة من العناصر، وتكون الخطوة التالية هي تقسيمها حسب فئاتها، إبداعا قوليا أو فكريا أو حركيا أو بصريا أو يدويا، ثم تقسيمها بعد ذلك حسب الاحتياج الفعلي لكل مكون، فمنهم من سوف يحتاج إلى تدريب، ومنهم من يحتاج إلى دعم فني وتقني، ومنهم يحتاج إلى تدريب لتطوير فنه، ومنهم من يحتاج إلى تسويق لمنتجه، ومنهم من يحتاج إلى دعم مادي.

رابعا: الثقافة التفاعلية والرقمية ومظلة النشر العربية

في مواجهة العولمة وطغيان النزعات الفردية في الثقافة العالمية، حاولت الكيانات الاقتصادية مواجهة الذوبان والتفتيت السياسي بالاتحاد الاقتصادي، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور كيانات اقتصادية عملاقة نتجت عن اتحاد كيانات أصغر، في استراتيجية تحاول البقاء والنمو في ظل تغيرات متسارعة.

ومن ناحية أخرى فإن صناعة النشر، في العالم كله أصبحت تعاني من مجموعة من الظروف التي أصبحت تؤثر بالسلب حتما على بقائها، ومن ثم نموها، ومن هذه الظروف عوامل التضخم الاقتصادي المؤثرة على الصناعات عموما، وارتفاع أسعار الورق والأحبار وسائر الخامات التي تستخدم في عملية الطباعة، التي هي أساس النشر، وإذا أضفنا إلى ذلك عوامل القرصنة على حقوق الملكية الفكرية، فإننا نكون أمام صناعة مُهددة بالفناء خاصة مع انتشار التعاملات الرقمية على المعرفة، خاصة بين الشباب الذين يمثلون القوام الأهم لكتلة القراء.

كل ذلك وغيره من العوامل يجعلنا نوقن بأهمية التصدي للنشر الرقمي، لا كوسيط بديل لنقل المعرفة ولكن بوصفه وسيطا أساسيا في العصر الحديث يجب علينا اقتحام مجاله، وهو الوسيط الذي تم السبق إليه من خلال شركات غربية وشرقية، وبقيت الكيانات العربية تقف أمامه محاولة تحسس طريقها في وجل شديد الظهور، حتى بات أمرا لا فكاك منه فبدأت في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تتحسس طريقها إليه في توجس من أثره على أرباحها من النشر الورقي.

وإذا كان المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت يشكل ما يعادل 3% من محتوى الشبكة عموما، فإن الأمر يستدعي العمل على تطوير هذه النسبة بشدة، وألا يكون العمل كما يحدث الآن عن طريق وجود محاولات فردية للنشر على الشبكة من قبل شركات النشر الخاصة التي – وإن سعت للربح – فإن وجودها على الشبكة العنكبوتية كان بحجم ال3% القار فعلا.

وإذا كنا في عصر الكيانات الكبرى والتنافس بينها على مناطق النفوذ الاقتصادي، وهو ما تجلى في التنافس بين جوجل وأمازون مثلا، فإن الأوان قد آن لكي تتحد الكيانات والمؤسسات الثقافية العربية لكي تنشئ لنفسها وجودا خاصا على الشبكة، وهو الأمر الذي يشكل ضرورة اقتصادية كما هي ثقافية وسياسية.

خامسا: الطبع المتواقت في عدة أماكن

إذا كان الكتاب هو العصب الأساسي في العمل الثقافي، وإذا كانت صناعة النشر العربية تعاني من مجموعة أزمات متتالية ناتجة عن معدلات التضخم، وطغيان ثقافة الصورة، وقرصنة حقوق الملكية الفكرية، وعدم تفعيل قوانينها في مجتمعاتنا بالقدر الكافي للحفاظ على كامل حقوق الناشر والمؤلف، بالإضافة إلى انصراف كثير من متلقي المعرفة عن الكتاب الورقي إلى الكتاب الإلكتروني، وكل ذلك مما يعد صعوبات تواجه إحدى الصناعات الثقافية المهمة.

وعلى ذلك يمكن لنا أن نضيف في المضمار نفسه ضرورات أساسية منها ضرورة تعاون المؤسسات العربية فيما بينها للتعظيم من إمكانات المشروعات الثقافية لتتخذ طابعا اقتصاديا، أو تخفف على الأقل من الأعباء الاقتصادية المحملة على المشروعات الثقافية.

فعلى سبيل المثال، تتحمل صناعة النشر تكاليف الشحن والجمارك من أجل نقل الكتب المطبوعة من دولة إلى أخرى، مضافا إلى كل ذلك اختلاف المعايير الاقتصادية بين هذه الدول، ويمكن أن يكون الحل المقترح لهذه الصعوبة أن تتعاون هيئات النشر في تلك الدول فيما يمكن أن نطلق عليه الطبع المتواقت، وهو أن يتم طباعة الكتاب في مكانه الأصلي في الوقت نفسه الذي يتم فيه طباعته في أماكن أخرى وتبعا للظروف الاقتصادية لهذه الأماكن، على أن يكون ذلك بالتبادل بين تلك الهيئات، وهو الأمر الذي يوفر كثيرا من التكاليف والإجراءات، وينتج الكتاب بأسعار تتناسب مع المتلقي في كل بلد، ويسهم في التواصل بين منتج المعرفة ومتلقيها في البلاد العربية كافة، بما يمثل حلا مهما من حلول أزمات النشر التي يتركز معظمها في التكلفة الاقتصادية.

ويمكن البدء في هذا المضمار بالمجلات الثقافية الأكثر انتشارا في البلاد العربية، بما يعزز من أواصر التعاون الثقافي بخلق مصلحة اقتصادية مشتركة بين تلك الهيئات، وهو الأمر الذي يمكنه ضمان استمرار تلك المشروعات إلى أمد طويل، خاصة إذا تم إشراك مؤسسات القطاع الخاص التي تعمل بالنشر في مثل تلك المشروعات.

وختاما، تملك الأمة العربية الكثير بالفعل، لكن هذا الكثير أهمه هو أفراد هذه الأمة وتراثهم وإبداعهم، وهي الأشياء التي أوجدت لنا تاريخا وحضارة استطاعت أن تترك في تاريخ الإنسانية علاماتها الفارقة والمهمة، كما استطاعت أن تجعلنا مُحملين بهوية خاصة على اختلاف أقطارنا، هي الهوية التي تتخذ طابعها من كل تلك العناصر المتمثلة في القباب والمآذن والأرابيسك ونقوش جدران المساجد، كما تعبر عن نفسها في الشعر والمقامة، وتتزين في الفخار ومنسوجات الصوف اليدوية.

لكن ما علينا الآن – فقط – هو استغلال ذلك التراث، وقوفا على العنصر البشري وإبداعه، واستثمار هذا الإبداع من أجل ترسيخ دعائم هويتنا من ناحية، ومن ناحية أخرى سنجد هذه الهوية بعناصرها كافة وسيلة حقيقية وفعالة لتحقيق الرفاه الاقتصادي، وليس علينا لنحقق ذلك سوى أن نؤمن أن أثمن ما نمتلكه هو البشر وإبداعهم.

وبالطبع فإن الغرض الأساسي من عرض هذه  الرؤية وتلك الآليات ليس بأي من الأحوال الاتجاه إلى تسليع الثقافة، والتعامل معها بصورة اقتصادية – أو بالأحرى رأسمالية –  لكن التحول في التعامل مع الثقافة من مجرد كونها خدمة إلى كونها موردا يمكنه توفير إمكانات تقديم الخدمة الثقافية، بالإضافة إلى تغيير النظر إلى الثقافة بوصفها هامشا وعالة إلى كونها معبرا حقيقيا ومفيدا عن الهوية الخاصة بالمجتمع، وهو الهدف الذي يمكن النظر إليه بوصفه هدفا أسمى في هذا المجال من أجل التوسيع من دائرة إنتاج المعرفة، ولتكون الثقافة فاعلة وفعالة في بناء المجتمعات العربية.

                                                               

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى