درايةمقالات

 متلازمة الإصلاح والتنمية.. ” الراكب المجاني ” (2)

كلمة السر هو الإنسان

بقلم أ.د/صلاح هاشم

تكلمنا في مقالتنا السابقة عن كيف يمكن أن يلعب غياب الفكر الاجتماعي في استبدال الشعوب بالجماهير التى عادة ما تتسم بالسطحية والاندفاع خلف غرائزها ولا يحكمها منطق سليم ويسهل توجيهها وقيادتها، حتى وإن كان ضد الدولة نفسها؛ مما يبرر حتمية تدشين نظريات جديدة في الفكر الاجتماعي تُسهم في إعادة إنتاج شعوب وطنية قادرة على بناء حضارات جديدة في ضوء معطيات العصر الحديث .

ففي الوقت الذي أصبح فيه الاستثمار في  الإنسان هو الاستثمار الناجح والأكثر ربحاً.. لا تحدثني عن ثروة بلد أهله مشحونون بالحقد والعنصرية والمناطقية والجهل والحروب، وحصر مفهوم التنمية والتطوير في البحث عن لقمة العيش أو العمل على تأمينها .. ففي الوقت الذى  أصبح فيه الإنسان يُطارد  بقوة المال ؛ باتت تطارده الظروف والأقدار بمنتهى القسوة لتكون المحصلة في النهاية هي عودة الدول خطوات متسارعة إلى الخلف ..!

فسنغافورة، البلد الذي بكى رئيسه ذات يوم، بسبب افتقار بلاده إلى مياه الشرب، يتقدم اليوم على اليابان من حيث متوسط  دخل الفرد…!!؟؟ ونيجريا التى تعد من أكثر دول العالم امتلاكاً للموارد الطبيعية وأكثرها تصديراً للبترول، أصبحت أكثر دول العالم فقراً وتراجعاً على مؤشر التنمية البشرية، وكلمة السر في ذلك هو تراجع الإنسان الذى صارا محملاً بالأعباء والصراعات والأحقاد العرقية ..!

الاستثمار فى العقل البشري هو القاطرة الآمنة للتنمية

 ففي عالمنا المعاصر باتت الشعوب المتخلفة فقط هي التي تعتمد على رصيدها في باطن الأرض كي تعيش وتتطور .. بعكس الدولة المتقدمة التى تراهن دائماً على الاستثمار في العقل البشري باعتباره القاطرة الآمنة للتنمية وحقل ثروتها الذى لا ينفد.. فأرباح شركة مثل سامسونج قد بلغت في عام واحد حوالي  327 مليار دولار.. وربما تحتاج  دول كثيرة إلى مئة عام للوصول إلى هذا الرقم من ناتجها المحلي ..!

 لقد هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية.. وفي أقل من خمسين عاماً انتقمت من العالم كله بالعلم والتقنية. فإذا كانت المحنة كما يقول ” فكتور ماري هوجو ” Victor-Marie Hugo تصنع الرجال، فإن رغد العيش يصنع الوحوش..! وحين  يفقد الشعب بوصلته الوطنية يدمر ممتلكاته العامة، اعتقاداً منه بأنه يدمر  ممتلكات الحكومة.. وقد شهدناً ذلك جلياً إبان أحداث 25 يناير 2011..!

نظرية “الثلث فى المائة”

إذن الإنسان هو كلمة السر وليس الحجر .. قدرة الدولة على إنتاج شعب صانع للحضارة قادر على إنتاج مستقبل آمن يتمتع فيه الإنسان بأرقى الخصائص الإنسانية من تعليم وصحة وخلافه .. ومن هنا فلا بد أن نفكر سوياً في تشريح المجتمع الإنساني .. وفق فكرة إنسانية بسيطة أطلق عليها نظرية ” الثلث في المائة” والتي تنطلق من تساؤل فلسفي مفاده ” هل المفروض أن يكون الشعب كله منتج لتصبح لدينا دولة منتجة ..؟ وهل من المفروض أن يكون الشعب كله صالح ليصبح لدينا دولة متحضرة ..؟!

فالمجتمع الإنساني في تصورنا وحسب ما فهمناه من علماء الوراثة عبارة عن ثلاثة فصائل.. كل فصيل يشكل 30 % من مجموع الشعب .. الثلث أول من الشعب يتسم بالإيجابية الشديدة والعزم ولدية إرادة قوية في الإصلاح والإنتاج ويشعر بالمسئولية الكاملة عن تطوير المجتمع ونهضته .. أما الثلث الثاني فمغاير تماماً عن الثلث الأول، حيث يتسم بالسلبية الشديدة ولديه رغبة قوية في الفساد والهدم، ويفتقد القدرة والرغبة في العمل والإنتاج والميل إلى التكاسل واللامبالاة والعيش على أكتاف الآخرين ولا يشعر بالمسئولية ولا تشغله سوى مصالحه الخاصة ومكتسباته الشخصية، حتى وإن كانت على حساب مصلحة الدولة وحاضرها ومستقبلها.، يحِنُ دائماً إلى الماضي ويشعر بالاختناق من الحاضر والاحباط وعدم الاكتراث بالمستقبل.. ومقتنع بأن الأنانية العميقة هي أساس جميع الفضائل الإنسانية.. أحب نفسك أيها الإنسان، تلك هي القاعدة الوحيدة التي يؤمن بها هذا الفصيل من الشعب وفقاً لأقوال  “فيودور دوستويفسكي” .

الراكب المجاني

 الثلث الثالث يتكون من فصيل بين بين .. استعير توصيفه من فيلسوف الحضارة ” مالك بن نبي ” حين تحدث عن ” إنسان النصف” مؤكداً إن إفساد النهضات عادة ما يكون بإنتاج إنسان النصف .. حيث عرف بن نبي ” إنسان النصف” بأنه إنسان شديد الإلحاح في طلب حقوقه، رغم أنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته، أو من ثقافة المتاح المتوفرة بين يديه،  يذهب للمدرسة كما يذهب للعمل  لا لشيء سوى إضاعة الوقت ..  وليس للتعلم ولا للإنتاج ..  لا يدرس كطالب ولا يعمل كموظف و لا يبدع في معمل ولا يبتكر في متجر ولا ينجز في مشروع  .. هو باستمرار إنسان النصف .. يقف في منطقة وسطى بين الفصيلين الآخرين ليمثل 30 % من المجموع.. ويميل إلى لعب دور  “الراكب المجاني ” الذى يفضل دائماً الجلوس على مقاعد المتفرجين على  مسرح المعركة،  ليصفق في النهاية للفائز دون أن يكسب عداوة أي الفريقين ..  وهو أسهل الفصائل الثلاثة في الجذب والاستقطاب والتأثير عليه.. ويصف نفسه دائماً بالموضوعية..!

ربما يكون هذا التصور بمثابة صورة مثالية لكافة المجتمعات الإنسانية منذ بداية العقد الاجتماعي وحتى الآن .. وأن نمو المجتمع في هذا الحالة هو نمو طبيعي يعجز عن الدخول في سباق التطور .. وحتى هذا التطور التلقائي لا يضمن بحال استمرار المجتمع وبقاءه .. !

فمادام الفصائل الثلاثة متساوية .. والمساواة هنا في الحجم المبني على الخصائص المتشابهة بين كل فصيل من الفصائل الثلاثة ” الفصيل الصالح الذى يقدم مصلحة المجتمع على نفسه والفصيل الفاسد الذى يغلب مصالحه الشخصية على المصلحة العامة للمجتمع والفصيل الثالث الذي هو إنسان النصف “.

إذن الصراع دائماً يكون بين الفصيلين الأول والثاني والذى يغلب هو الذي يسم المجتمع بسماته الخاصة .. إيجابية كانت أو سلبية .. وأقصى انتصار يمكن أن يحققه فصيل على الآخر هو أن يحول جزء منه إلى الفصيل الثالث الذي يمثله إنسان النصف أو الراكب المجاني  الذى هو الحلبة الحقيقة للصراع بين الفصيلين .. باعتباره الفصيل الأسهل في الجذب والاستقطاب ..!

والسؤال الذى يطرح نفسه كيف يمكن لفصيل أن يتغلب على الفصيلين الآخرين ليشكل السمات العامة لمجتمع وكيف يمكن للفصيل الصالح أن يحقق الغلبة ليصبح لدينا مجتمعاً صالحاً تتوافر فيه كافة مقومات النهضة .. وهو ما سوف نوضحه في مقالتنا القادمة ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى