تداعيات الحرب في السودان على الاقتصاد المصري
مؤتمر دول جوار السودان يؤكد دعم مصر غير المحدود للخرطوم
الملخص التنفيذي
مع اقتراب دخول الصراع فى السودان شهره الرابع بين الجيش بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي، بحصيلة أكثر من 3 آلاف قتيل وما يتجاوز 2.8 مليون نازح ولاجىء داخل وخارج البلاد، وسط تحركات دولية لإجلاء الرعايا الأجانب من البلاد، حذرت الأمم المتحدة من تدهور الوضع في ثالث أكبر دولة في إفريقيا، خاصة مع اعتماد عدد كبير من الأشخاص على المساعدات قبل بدء النزاع.
كان السودان يسير في طريقه السليم تجاه الانتقال السياسي فى البلاد بعد توقيع الاتفاق الإطاري بين المكون المدني والعسكري، وقبل محطة الوصول النهائية نشب صراع مسلح بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ومازال الاقتتال مستمرا . ومع إصرار الفريق البرهان وحمديتي على خرق كل محاولات الهدنة والتهدئة متهمين بعضهما البعض، ووسط زيادة أعداد القتلى والجرحى، وانهيار كامل في المنظومة الصحية، وأزمة نزوح جماعي من ويلات الحرب الدائرة، وأزمة انقطاع المياه والكهرباء وشح الغذاء والوقود والدواء كل تلك المعاناة تنذر بأزمة إنسانية كبيرة.
وتجدر الإشارة إلى أن دولة السودان تزخر بخيرات كثيرة، فهي من أغنى الدول بالموارد الطبيعية مثل الذهب والفضة والغاز الطبيعي والزنك والحديد والكروميت، فتُعد السودان ثالث أكبر دولة إفريقية – بعد جنوب إفريقيا وغانا – من حيث موارد الذهب المعروفة في القارة السمراء، وتحيط بها عدد من الدول المغلقة اقتصادياً أو تجارياً، والتى تعتمد عليها خصوصاً عبر ميناء بورتسودان في توفير احتياجاتها من الخارج، ومن ثم يُشكل السودان معبراً لتجارة تلك الدول المغلقة مع العالم الخارجي، مثل تشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا ودول أخرى، فضلا عن حقيقة أن توطيد علاقات الدول المختلفة بالخرطوم يتيح لها توسيع امتدادها الجيوسياسي والتجاري فى البحر الأحمر.
توصلت الورقة إلى أن نشوب الحرب الحالية، واستمرارها خلال الفترة المقبلة، سيزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لعلاقات السودان مع مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، ، خاصة مع تعطل المرافق القادرة على إنتاج الغذاء، ومرافق استيراد الغذاء وستكون أولوية الإنفاق الحكومي هو الإنفاق العسكري والأمني، فضلاً عن صعوبة تدبير النقد الأجنبي، وزيادة نسب البطالة بين الشباب. فتصاعد الحرب الحالية يمكن أن يدفع الناتج المحلي الإجمالي للتراجع من حيث القيمة ومعدلات النمو، مما يُحدث أثراً سلبياً على المؤسسات المالية الإقليمية والدولية، مثل بنك التجارة والتنمية وبنك التصدير والاستيراد والمؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص وبنك التنمية الإفريقي، والبنك الإسلامي للتنمية.
تتمثل أهم النتائج التي توصلت إليها الورقة فيما يلي:-
- يستحوذ السودان على حوالي 13,5% من حجم التبادل التجاري بين مصر وقارة إفريقيا.
- تأتى السودان فى المرتبة الأولى للصادرات المصرية لدول حوض النيل بما قيمته 826.8 مليون دولار عام 2021، كما جاءت أيضا السودان فى المرتبة الأولى للواردات من دول حوض النيل بما قيمته 336.7 مليون دولار.
- سجل حجم التبادل التجاري بين مصر والسودان 1,434 مليار دولار خلال عام 2022 مقارنةً 1,212 مليار دولار خلال عام 2021، بينما بلغت الصادرات المصرية إلى السودان 929 مليون دولار خلال عام 2022، وبلغت الواردات السودانية لمصر نحو 504.5 دولار في عام 2022.
- يُعد السودان موردا رئيسيا للمواشي واللحوم الحية وهي إحدى السلع الاستراتيجية لمصر، حيث تمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من اللحوم.
- أفادت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن امتداد الاشتباكات في السودان لفترة مطولة يُشكل خطرا متزايدا وسيكون له تأثير ائتماني سلبي على البلدان المجاورة ومنها مصر.
- يقدر حجم الاستثمار المصري في السودان بنحو 2.7 مليار دولار.
أولا: تحليل آداء الاقتصاد السوداني
مر عام 2022 قاسياً على السودان من الناحية الاقتصادية نتيجة الأزمة السياسية التى حلت به فى أعقاب إجراءات الجيش فى 25 أكتوبر 2021، وبلغت الإيرادات العامة 2.9 مليار دولار في 2022، ما يمثل 9.7 % من الناتج المحلي الإجمالي للسودان، الذي بلغ 30.5 مليار دولار بمعدل نمو 0.6 % بنهاية 2021.
كما بلغ إجمالي الصادرات 4.3 مليار دولار في 2022، بينما كانت جملة الواردات 11 مليار دولار بعجز كبير في الميزان التجاري تجاوز 6.7 مليار دولار، بعدما سجلت الصادرات 5 مليار دولار، والواردات 9.9 مليار دولار بعجز بلغ 4.8 مليار دولار فى 2021، وذلك وفقا للموجز الإحصائي للتجارة الخارجية الصادر عن بنك السودان المركزي فى ديسمبر 2022.
هذا إلى جانب تراجع الاستثمار الأجنبي وتناقص تحويلات السودانيين العاملين فى الخارج التى تمثل نحو 60% من إجمالي مصادر النقد الأجنبي حسب بيانات رسمية، الأمر الذى تسبب فى نقص إيرادات الدولة من النقد الأجنبي، وكان إسهام المنح الأجنبية في إجمالي الإيرادات خلال 2022 (صفراً)، بعد أن علق المانحون الدوليون مساعداتهم المالية للسودان وتم إيقاف أنشطة البنك الدولي ومشروعاته وتجميد اتفاقية إعفاء الديون من مجموعة نادي باريس وفقد السودان نحو 4.3 مليار دولار كان يمكن الاستفادة منها في حال استمر مسار الانتقال السلمي للسلطة.
عملت السلطات على تعويض هذا النقص بزيادة الضرائب التي تسببت في دخول الاقتصاد في حالة ركود وارتفعت الأسعار، وتراجعت القوى الشرائية للمواطنين، هذه الصورة القاتمة والأوضاع المتردية والركود هو ما دخل فيه الاقتصاد السوداني عام 2023، وكل الآمال كانت معلقة بوصول سريع لاتفاق حول عودة مسار الانتقال واستئناف الإصلاحات الاقتصادية والعودة للتعامل مع المجتمع الدولي مجدداً.
لكن هذه الآمال تبددت باندلاع الحرب في 15 أبريل، مما جدد المخاوف بانزلاق الاقتصاد السوداني نحو الانهيار الشامل، وقامت الدول الأجنبية بإجلاء رعاياها مخافة اتساع رقعة الحرب، مما أصاب النشاط الاقتصادي بالشلل، حيث ترفع الحرب من أخطار التعامل التجاري مع السودان، وتتسبب في هجرة رؤوس الأموال، كما يعاني المواطنون من ظروف بالغة التعقيد بعد أن أوقف برنامج الغذاء العالمي برامجه بسببها، ومن المرجح أن تشهد البلاد موجة من الانفلات الأمني تجعل من تدفق السلع للأسواق أمراً بالغ الصعوبة، الأمر الذى يُزيد من مخاوف حدوث مجاعات في بلد كان في دائرة خطر المجاعة قبل اندلاع الحرب.
ثانيا: العلاقات الاقتصادية المصرية السودانية
شهدت العلاقات الاقتصادية بين مصر والسودان تطورًا ونموًا كبيرًا خلال السنوات الماضية ولا سيما حجم التبادل التجاري والاستثمارات والمشروعات العملاقة التي شهدت نموًا ملحوظًا وفقًا لاتفاقيات تعاون اقتصادية وبروتوكولات موقعة بين الدولتين. لا شك أن الصراع الدائر الآن في السودان بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني سوف يؤثر على النشاط الاقتصادي بين مصر والسودان خاصةً فيما يخص معدل التبادل التجاري حيث سيواجه مشكلة كبيرة في حالة استمرار الصراع.
يستحوذ السودان على حوالي 13,5% من حجم التبادل التجاري بين مصر وقارة إفريقيا، خاصةً بعد افتتاح ميناء قسطل – أكيت البري في عام 2015، والذي يُعدُ بمثابة أهم بوابة لمصر تطل من خلالها على إفريقيا حيث يسهم الميناء في إحداث نقلة كبيرة في حركة التبادل التجاري بين مصر من جهة والسودان والقارة الأفريقية من جهةً أخرى.
تأتى السودان فى المرتبة الأولى للصادرات المصرية لدول حوض النيل بما قيمته 826.8 مليون دولار عام 2021، وذلك من إجمالي قيمة صادرات بلغت 1.6 مليار دولار، أى بنسبة بلغت 51.7%.. كما جاءت أيضا السودان فى المرتبة الأولى للواردات من دول حوض النيل بما قيمته 336.7 مليون دولار عام 2021، من إجمالي واردات بلغت 662.1 مليون دولار، أى بنسبة بلغت 50.9%، وذلك وفقا للنشرة السنوية بعنوان “التبادل التجاري بين مصر ودول حوض النيل عام 2021” الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فى نوفمبر 2022.
وتأتى اللدائن ومصنوعاتها (مواد خام لصناعة البلاستيك) فى المرتبة الأولى من الأصناف التى يتم تصديرها للسودان، يليها السكر ومصنوعات سكرية، ثم منتجات مطاحن وشعير ونشا حبوب، ثم الأسمدة، وتأتى الحيوانات الحية فى مقدمة الأصناف التى يتم استيرادها من السودان، تليها الحبوب والثمار الزيتية والنباتات الطبية والعلف ثم القطن.
تجدر الإشارة إلى أن السودان يُعد موردا رئيسيا للمواشي واللحوم الحية وهي إحدى السلع الاستراتيجية لمصر، حيث تمد السودان مصر بنحو 10% من احتياجاتها من اللحوم، ومع استمرار الصراع وقلة ما يتم استيراده من اللحوم من السودان يزداد الضغط على أسعار اللحوم محليا، ذلك إلى جانب المواد الخام التى تستوردها مصر من السودان، مما ينعكس سلبا على أسعار السلع فى مصر، ويتسبب فى ارتفاع معدلات التضخم.
ترتبط مصر والسودان بعلاقات تاريخية قوية وراسخة، يجمعهما المصير المشترك، والعلاقة بين البلدين تكاملية وليست تنافسية، ويعتبر حليف لا يمكن الاستغناء عنه لأهميته الاستراتيجية لمصر، فحدودهما المشتركة تقدر بـ1276 كم ويشتركان في ممر مائي عالمي البحر الأحمر، فضلا عن الروابط المشتركة سواء كانت تاريخية أو ثقافية.
ثالثا: تداعيات الحرب في السودان على مصر
يؤثر استمرار الصراع فى السودان على أمن واستقرار الإقليم بأسره، فعدم استقرار السودان أمر مقلق خاصة لدول الجوار ومنطقة القرن الإفريقي، حيث توجد 7 دول أساسية مجاورة للسودان تتأثر بشكل كبير بالتطورات فيه، إضافة إلى دول جوار الجوار، ليصبح عدد الدول المتضررة على أقل تقدير حوالي 17 دولة تعتمد بشكل أو بآخر على استقرار السودان سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
وبينما تسعى الحكومة المصرية للحد من تبعات الحرب الأوكرانية، وتوفير الحماية الاجتماعية للمواطن، جاءت الأزمة السودانية لتضيف عبئًا جديدًا عليها، لاسيما وأن أكثر من 145 ألف لاجئ سوداني فروا إلى مصر منذ بدء الصراع المسلح الذي يشهده السودان، وذلك وفقا لتقديرات المفوضية السامية لشئون اللاجئين التى كانت قد ذكرت فى أغسطس 2022 أن تعداد اللاجئين السودانيين بمصر يُقدر بنحو ما بين 58 ألفًا و60 ألف شخص. هذا بالإضافة إلى ما كشفت عنه المنظمة الدولية للهجرة IMO التابعة للأمم المتحدة بأن أعداد المهاجرين السودانيين فى مصر بلغ 4 ملايين.
ولا شك أن هذا الأمر يُنذر بتأثر قطاعات اقتصادية مهمة، وقد يمتد تأثيرها إلى المواطن من خلال ارتفاع جديد في أسعار بعض السلع، وبينها اللحوم على سبيل المثال، حيث من المتوقع تراجع الكميات المستوردة من اللحوم السودانية، التي كانت جزءًا من محاولات كبح جماح ارتفاع سعر اللحوم في السوق المحلية المصرية.
وتُشير التوقعات إلى تأثر عدد من القطاعات، مثل مواد التشييد والبناء، والأجهزة الكهربائية، والأغذية المصنعة، والملابس، وبعض المنتجات الزراعية، التي تعتمد في جزء من عملها على تصدير المنتجات إلى السودان بالدولار، وبينما لا تبدو التأثيرات الاقتصادية واضحة حاليًا، إلا أنه من المؤكد أن استمرار الصراع في السودان ستكون له تبعات كبيرة وخطيرة في الفترة المقبلة.
وتتأثر مصر اقتصاديًّا بالأزمة في السودان من عدة أوجه كما يلي:
أ- الأثر على التجارة
حققت معدلات التبادل التجارى بين مصر والسودان في 2022 ارتفاعًا بنسبة 18.2%، لتبلغ، بحسب تقديرات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، 1.434 مليار دولار. ويستحوذ السودان على 13.2% من قيمة التبادل التجارى بين مصر ودول القارة الإفريقية، بصادرات بلغت قيمتها 929 مليون دولار العام الماضى، مقابل 504.5 مليون دولار قيمة الصادرات السودانية لمصر، فتحتل السودان المرتبة الثانية بقائمة أكبر 5 أسواق مستقبلة للصادرات المصرية بقيمة 226 مليون دولار، وفقا لبيانات الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات.
لا تبدو الأرقام كبيرة لدولتين بحجم مصر والسودان، لكنها كانت في طريقها للتصاعد والنمو في ظل رغبة البلدين في توسيع حجم التبادل التجارى بينهما، عبر إقامة مشروعات متعددة، بينها مشروع للربط الكهربائى، وإنشاء خط سكة حديد بين الدولتين.
جاءت الحرب الحالية لتعرقل هذه الطموحات، وتلقى بظلالها على الوضع الاقتصادى، الذي مازال يعانى تبعات الحرب الروسية- الأوكرانية، وما أسفرت عنه من تأثيرات سلبية على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية.
ب_ الأثر على تحويلات العاملين
بحسب بيانات الهيئة العامة للاستعلامات، بلغ عـدد المصـريين المتواجديـن بدولة السودان نحو 150.400 ألف مصري حتى نهاية 2020، ومن المتوقع أن تشهد تحويلات المصريين العاملين بالسودان تراجعا كبيرا بسبب عودة أغلب المصريين إلى مصر مرة أخرى بسبب الصراع الدائر في السودان.
ولكن على الجانب الآخر ستظل تحويلات السودانيين العاملين في مصر مستمرة في التحويل إلى السودان، وفي حالة انتهاء الصراع القائم داخل السودان فإن هناك فرصة سانحة لمصر لزيادة صادرتها على مختلف الأصعدة إلى السودان في ظل معاناة الاقتصاد السوداني بسبب حالة الشلل التي يعاني منها والتي ترجع إلى توقف غالبية الأنشطة الاقتصادية.
إن فرصة مصر كبيرة بحكم موقعها في تعويض السودان وإمداده بما يحتاجه في كافة المجالات وتتويج العلاقات الاقتصادية المصرية السودانية بالتعاون والتبادل التجاري المنشود، حيث يعد السودان بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق إفريقيا، ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن، سيتأثر حجم التبادل التجاري بين البلدين، وهو ما ينعكس سلبا على الاقتصاد المصري الذي يعاني بعض الأزمات في الوقت الراهن.
ونظرا لأن السوق السودانية تُعد منفذا هاما للمصانع الصغيرة في مصر، في ظل ما تعانيه السوق المحلية من آثار الركود، فالوضع الراهن فى السودان يُضيف مشكلات جديدة للاقتصاد المصري.
كانت دولة السودان ولا تزال شريكا أساسيا للدولة المصرية فى قطاعات ومناحى عدة على المستويات الاقتصادية والاستراتيجية والسياسية، ولا شك أن أزمة السودان وحدوث انشقاقات وحروب داخلية بها سوف يكون له انعكاسات سلبية عديدة تؤثر على الاقتصاد بشكل أساسى وكبير نتيجة حجم الشراكة القائمة بين مصر والسودان فى عدد من المشاريع، بجانب عمليات الاستيراد والتصدير بين البلدين.
ج- تأثر القطاع الغذائى فى مصر
كان من المفترض أن تستفيد الدولة المصرية من الأراضى الزراعية التى كانت قد بدأت مصر فى زراعتها داخل الدولة السودانية، خاصة في ظل ما تتمتع به السودان من وفرة في المياه والأراضي الخصبة والمساحات الشاسعة الصالحة للزراعة، والتى كانت سوف تتسبب فى وفرة هائلة قد تصل إلى الاكتفاء الذاتى فى القطاع الغذائى المصرى، بل كانت الدولة المصرية تستهدف التصدير بكميات كبيرة للخارج، الأمر الذى يعكس حجم الضرر الذى لحق وسوف يلحق بالاقتصاد المصرى لا محالة، فلا يمكن استمرار الزراعة فى ظل أجواء مليئة بالصراعات والحروب.
ومن المتوقع أن يتأثر الأمن الغذائي في مصر جراء الوضع الراهن فى السودان بسبب نقص كل من اللحوم وكذا الحبوب التى تعاني منها مصر بالفعل جراء الحرب الروسية الأوكرانية. وهنا نشير إلى أن السودان يحتل المرتبة الأولى على المستوى العربي والإفريقي والسادسة على مستوى العالم فى الثروة الحيوانية، وينتج محاصيل مهمة وفى مقدمتها: القمح، والقطن، والفول، والذرة، والسمسم.
د-تأثر الاستثمارات والعمالة المصرية
بدأت مصر بالفعل فى إنشاء خط سكك حديد يمتد من داخل محافظة أسوان إلى داخل الدولة السودانية لسهولة الوصول بين مصر والسودان للتوسع فى حجم التبادل التجارى فى القطاعات المختلفة، حيث إن الانتهاء من بناء خط داخلى سكة حديد بين مصر والسودان لن يخدم مصر فى القطاع التجارى فقط ولكن سوف يسهل عملية الذهاب والإياب للعمالة المصرية والسودانية بين مصر والسودان.
كما ستتأثر المشاريع المشتركة بين البلدين، فلدينا شركات كثيرة مصرية سواء كانت حكومية أو قطاع خاص تستثمر على الأراضي السودانية في مجالات عديدة في الزراعة والصناعة والكهرباء واستصلاح الأراضي والتشيد والبناء والمجالات الخدمية وغيرها والتي يقدر حجم الاستثمار فيها بنحو 2.7 مليار دولار، وتعتبر شركة السويدي المصرية للكابلات الكهربائية من أبرز الشركات المصرية العاملة في السودان. ومع استمرار الاقتتال ستتوقف تماما مما يكون له انعكاسات سلبية على اقتصاد البلدين، في الوقت التي كانت يتجه البلدان إلى توسيع حجم التبادل التجاري وزيادة حجم المشروعات كمشروع الربط الكهربائي وإنشاء خط سكة حديد لزيادة الحركة سواء كانت أفرادا أو تجارية.
ومع عودة العمالة المصرية من السودان بالإضافة إلى نزوح الآلاف من السودانيين إلى مصر بسبب المعاناة من ظروف الحرب حتى ولو بشكل مؤقت، تتحمل الدولة المصرية عبئاً اقتصادياً كبيراً..هذا بالإضافة إلى الطلبة المصريين الدارسين بالسودان وتقنين أوضاعهم ووضع آليات لقبولهم سواء بالمدارس أو الجامعات، وكذلك السودانيين يتم تحديد آليات استيعابهم وفق محددات تضعها الدولة والتي ترهق ميزانيتها أيضا.
ه- الأثر على القطاع البنكي والمؤسسات الإقليمية الائتمانية
أفادت وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن امتداد الاشتباكات في السودان لفترة مطولة هو خطر متزايد وسيكون لديه تأثير ائتماني سلبي على البلدان المجاورة، وبنوك التنمية متعددة الأطراف المنكشفة على ديون هذه الدول.
وأضافت موديز أنه في حال تطور الاشتباكات في السودان إلى حرب أهلية طويلة ودمار البنية التحتية وتدهور الأوضاع الاجتماعية، سيؤدي ذلك إلى عواقب اقتصادية طويلة المدى وتراجع جودة أصول البنوك متعددة الأطراف في السودان إلى جانب ارتفاع القروض المتعثرة والسيولة. وأوضحت أن أي امتداد إلى البلدان المجاورة أو تدهور عام في البيئة الأمنية للمنطقة من شأنه أن يثير مخاوف أوسع بشأن جودة الأصول لبنوك التنمية متعددة الأطراف ذات التركيز الأعلى على قروض في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر.
على مستوى المؤسسات المالية الإقليمية يتضح ما يلي:-
1- “أفريكسيم بنك” لديه نحو 930 مليون دولار قروض في السودان، ولديه تأمين على 220 مليون دولار فقط منها، ومع تأزم الأوضاع نتيجة الحرب ستتأثر أعمال البنوك ومؤسسات التمويل متعددة الأطراف ومدى قدرتها على تمويل المشاريع في المنطقة ككل. كما تنعكس تلك التطورات على البنوك والمؤسسات المالية العاملة في السودان ودول الجوار. وقد نبّه إلى ذلك أحدث التقارير الصادرة عن وكالة موديز للتصنيف الائتماني، بالإشارة إلى الآثار الائتمانية السلبية المعرضة لها عدد من المؤسسات وبنوك التنمية متعددة الأطراف التي تقدم قروضاً بالسودان ودول المنطقة.
2- بنك التجارة والتنمية: تشكل قروضه بالسودان 14 % من محفظته (بإجمالي 930 مليون دولار)، 34 % من الأموال التي يخصصها البنك لأغراض التنمية موجهة إلى قروض لمشاريع وأنشطة تجارية في السودان والدول المحيطة به.
3- بنك التصدير والاستيراد الأفريقي: 31 % من قروضه موجهة للسودان.
4- المؤسسة الإسلامية لتنمية القطاع الخاص: 3.1 % من أصوله تتركز في الخرطوم.
5- بنك التنمية الإفريقي والبنك الإسلامي للتنمية: توازي قروض كل منهما 1 % من أصوله المخصصة للمشاريع التنموية.
ولهذا، يمكن للأوضاع المتأزمة فى السودان أن تتسبب فى خفض تصنيف مصر الائتماني نظرا للمخاطر التى قد تتعرض لها لارتباط الأمن القومي المصري بالسوداني، الأمر الذى قد يؤدى إلى زيادة تكلفة الإقراض والفوائد على القروض التى تمنحها المؤسسات المالية الدولية لمصر.
رابعا: الدور المصري تجاه الأزمة في السودان
تبذل الدولة المصرية جهودا حثيثة لتحقيق التهدئة ونزع فتيل الأزمة ودفع مسار الحل السلمي فى السودان، وذلك دون دعم طرف على حساب طرف آخر، فموقف مصر واضح وثابت تجاه الأزمة في السودان باعتبارها شأن داخلي لا ينبغي التدخل فيه حتى لا يؤدي إلى تفاقم الصراع، فتحاول مصر الوساطة بين المتنازعين للوصول إلى مائدة المفاوضات ووقف الحرب فورا، وهي تعلم أن أمنها الإقليمي مرتبط بأمن السودان واستقرارها يعنى استقرار الدولة المصرية، فأبعاد الأمن القومي المصري يرتبط بالسودان نظرا لأنه يشكل حدود مصر الجنوبية.
وجاءت استضافة القاهرة اليوم الخميس 13 يوليو لمؤتمر دول جوار السودان لتؤكد دعم مصر غير المحدود للسودان وسعيها لصياغة رؤية مشتركة لدول الجوار المُباشر للسودان، ووضع آليات فاعلة لتسوية الأزمة بصورة سلمية، واتخاذ خطوات لحقن الدماء والحفاظ على الدولة السودانية ومُقدراتها.
ووضعت القيادة السياسية المصرية تصورا لخروج السودان من مأزقه الراهن، والذي يرتكز على النقاط التالية:
- مطالبة الأطراف المتحاربة بوقف التصعيد والبدء دون إبطاء في مفاوضات جادة تهدف للتوصل لوقف فوري ومستدام لإطلاق النار.
- مطالبة كافة الأطراف السودانية بتسيير نفاذ المساعدات الإنسانية، وإقامة ممرات آمنة لتوصيل تلك المساعدات للمناطق الأكثر إحتياجًا داخل السودان، ووضع آليات تكفل توفير الحماية اللازمة لقوافل المساعدات الإنسانية، ولموظفي الإغاثة الدولية لتمكينهم من أداء عملهم.
- إطلاق حوار جامع للأطراف السياسية، بمشاركة القوى السياسية والمدنية وممثلي المرأة والشباب، يهدف لبدء عملية سياسية شاملة تلبي طموحات وتطلعات الشعب والسوداني في الأمن والرخاء والاستقرار والديمقراطية.
- تشكيل آلية اتصال منبثقة عن هذا المؤتمر لوضع خطة عمل تنفيذية للتوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية، على أن تطلع بالتواصل المباشر مع أطراف الأزمة والتنسيق مع الآليات والأطر القائمة.
ومن بين توصيات مؤتمر دول جوار السودان التأكيد على أهمية التعامل مع الأزمة الراهنة وتبعاتها الإنسانية بشكل جاد وشامل نظرا لأن استمرار الأزمة سيترتب عليه زيادة النازحين والمزيد من الفارين من الصراع لدول الجوار وفى مقدمتها مصر، الأمر الذي سيمثل ضغطا إضافيا على مواردها، وسيتجاوز قدرتها على الاستيعاب، ما يقتضي ضرورة تحمل المجتمع الدولي والدول المانحة لمسئوليتها في تخصيص مبالغ مناسبة من التحويلات التي تم الإعلان عنها لمؤتمر الإغاثي لدعم السودان والذي عُقد في 19 يونيو 2023.
وفى كلمة مندوب مصر بمجلس الأمن السفير أسامة عبد الخالق خلال جلسة مجلس الأمن حول الوضع فى السودان والتى عقدت فى إبريل 2023، أعربت مصر عن تضامنها التام والكامل مع الشعب السوداني الشقيق في أزمته الحالية، وطالبت بضرورة المحافظة على وحدة وسلامة الأراضي السودانية واستقلاله وسيادته لما يمثله السودان من عمق استيراتيجى لمصر، ولما ترتبط به مصر والسوادن من روابط تاريخية، وحذرت من أي تدخل خارجي في السودان أيا كانت طبيعته أو مصدره، مؤكدة سعيها ونسعي للتعاون مع عدد من الدول من أجل إجلاء الرعايا المصريين والأجانب مع ضرورة وقف إطلاق النار لحماية الشعب السوداني.
كما شاركت مصر في الاجتماع الوزاري الدولي الذي عقدته مفوضية الاتحاد الإفريقي ووقعت على البيان الصادر عنه، كما تنسق مع عدد من المنظمات الدولية والحكومات لبحث سبل الخروج من تلك الأزمة. كما أصدرت وزارة الخارجية تعليماتها بتسهيل إجراءات دخول السودانيين، مع تسهيل إجراءات الحصول على تأشيرة لمن عمره بين 16 إلى 50 سنة، والسماح لعبور الأطفال دون 16 سنة وكذلك السيدات والرجال فوق 50 سنة بشرط وجود جواز سفر. وأعلنت عن بقاء البعثة الدبلوماسية برغم استشهاد مساعد الملحق الإداري بالسفارة المصرية بالخرطوم، وستعمل على إجلاء المصريين الراغبين في العودة إلى مصر، ورفعت حالة الاستعداد القصوى على المنافذ البرية منفذ “قسطل” ومنفذ “أرقين” صحيا ولوجيستيا وأمنيا لاستقبال كل النازحين، وسط موجة عارمة من التعاطف الشعبي المصري لأهاليهم وإخوانهم من الشعب السوداني.
وتنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية، قدمت مصر للسودان مئات الأطنان من المساعدات الإغاثية من مواد غذائية وإعاشية ومستلزمات طبية مقدمة من وزارتي الدفاع والتضامن الإجتماعى وجمعية الهلال الأحمر المصرية وبيت الزكاة والصدقات المصري.
خاتمة
بينما ينشغل العالم بمحاولات إيجاد حل سياسى للحرب الدائرة حاليًا في السودان، بالتزامن مع إجلاء رعايا الدول الأجنبية، واستقبال السودانيين الفارِّين من الصراع العسكرى، تلوح في الأفق بوادر تبعات اقتصادية كبيرة على مصر، والدول المجاورة فيما لو استمرت الحرب فترة طويلة، وهو ما حذرت منه وكالة موديز للتصنيف الائتمانى متوقعة تأثيرًا ائتمانيًّا سلبيًّا على الدول المجاورة.
إن للحرب تداعيات متعددة سياسية وأمنية وإنسانية واقتصادية، تتطلب سياسات رشيدة للتعامل معها، وأثبتت الدولة المصرية خلال الفترة الأخيرة قدرتها على التعاطى مع الأزمات بحكمة وتوازن سياسى ينأى بها عن التدخل في شئون الدول الداخلية، وبإجراءات تسهم في الحد من تأثيراتها على الاقتصاد والمواطن، وهى السياسة التي مازالت تنتهجها رغم كثرة الأعباء. ومما لاشك فيه أن الحرب في السودان تُشكل خطرًا على مصر وأمنها القومى واقتصادها أيضًا، ولا بد من حل سياسى سريع للأزمة قبل أن تستفحل.