مقالات

سياسات الحماية الاجتماعية في الجمهورية الجديدة

مكافحة جادة للفقر ومظلة دعم كاملة للمواطن

أ.د/صلاح هاشم

أظهرت الأزمات الاقتصادية العالمية الراهنة عديد من الأزمات المعيشية والاجتماعية والسياسية لكثير من دول العالم ولا سيما الدول النامية، وكان لمصر نصيب كبير منها، خاصة فيما يتعلق بارتفاع معدلات التضخم وزيادة الأسعار بشكل غير مسبوق، الأمر الذي جعل لبرامج الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان الاجتماعي الجيدة أهمية خاصة في الحد من الفقر وعلاج مواطن الضعف والخلل في السياسات الاقتصادية والمالية  في كافة دول العالم تقريباً.

 فالبلدان التي لديها برامج فعالة للحماية الاجتماعية تستخدمها في التصدي للأزمات والكوارث، وفي المقابل، فإن البلدان التي ليس لديها مثل هذه البرامج تضطر في العادة إلى الاعتماد على تدابير خاصة أقل فعالية من التي تتبناها الدول الأخرى. غير أن بناء أرضيات للحماية الاجتماعية يستغرق وقتاً أكبر ويتطلب إرادة سياسية أقوى، خاصة أن أوقات الأزمات أو أوضاع ما بعد الكوارث هي الأوقات الأسوأ في بناء شبكات جيدة للأمان الاجتماعي. ومن ثم فمن الضروري أن تتحلى سياسات الحماية الاجتماعية بمعايير عادلة وعالية للإدارة الرشيدة وتحقيق النتائج، وذلك لضمان تقديم مساعدات أكثر فعالية للأسر الأولى بالرعاية.

بناء أرضيات ميسورة التكلفة للحماية الاجتماعية

ويُعد بناء أرضيات مستدامة وميسورة التكلفة للحماية الاجتماعية أحد أهم مكونات استراتيجية الدولة للحماية الاجتماعية خاصة ونحن على أعتاب الجمهورية الجديدة التي تستهدف بالأساس الارتقاء بخصائص الإنسان المصري، وجعله أكثر انتماءً وإحساساً بالحياة الكريمة؛ لما يتمتع به من مستوى معيشي لائق وخدمات صحية وتعليمية عالية الجودة، وبتكلفة أقل، وانحياز واضح لمبادئ العدالة الاجتماعية.

ومن ثم، فإن سياسات الحماية الاجتماعية التي تستهدفها الدولة الفترة القادمة تركز بشكل عميق على الانتقال بالسياسات الاجتماعية بعيدا عن البرامج المفتتة إلى أنظمة ميسورة التكلفة للحماية الاجتماعية من شأنها تمكين المواطنين من إدارة المخاطر وتحسين قدرتهم على الصمود في وجهها من خلال الاستثمار في رأس المال البشري وتحسين قدرة الشباب في الحصول على الوظائف.

ولا يمكننا بحالٍ أن نتحدث عن الحماية الاجتماعية بعيداً عن الحديث عن الفقر، باعتبار أن القضاء عليه والتخفيف من تدعياته هو الهدف الأول والأسمى لسياسات الحماية الاجتماعية .. كما أن تزايد معدلات الفقر وتوحشها يُعد من أهم التحديات التي تُعِيق برامج الحماية الاجتماعية في مصر .. وإذا كان الحديث عن الفقراء وأوضاعهم المعيشية هي الشغل الشاغل للقيادة السياسية في هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن، فمن الأهمية بمكان ألا نغض الطرف عن المهددين بالفقر، والذين لا يجب أن تتجاهلهم السياسات والبرامج الجديدة التي تتبناها الدولة للحد من الفقر والانطلاق نحو التنمية بمفهومها الشامل والمستدام.

الفقر والمهددون بالفقر والفقراء الجدد..محاور رئيسية لسياسات الحماية الاجتماعية

وإذا كنا نتحدث عن سياسات جديدة تتناسب مع النقلة النوعية المتوقعة والتي تهل نسائمها على أعتاب الجمهورية الجديدة، فلابد من الحديث عن ثلاثة مفاهيم أساسية هي الفقر والمهددين بالفقر والفقراء الجدد، ومن ثم فإنه من الصعب الحديث عن رؤية واضحة للحماية الاجتماعية دون أن تكون محاورها الرئيسية تدور حول هذه المفاهيم الثلاثة مجتمعة ..وكما أن الهدف الأول للحماية الاجتماعية هو الحد من الفقر المادي وتداعياته الاجتماعية والمعيشية والثقافية، فإن الهدف الآخر والذي لا يقل أهمية في تصوري عن الهدف الأول يتمثل في الحد من الإحساس بالفقر .

وإذا كان الفقراء الجدد هم أبناء الطبقة الوسطى الذين سقطوا بفعل الظروف الاقتصادية القهرية في دائرة الفقر فأصحبوا فقراء بخصائص وثقافة مغايرة، فإن الحديث عن المهددين بالفقر يتضمن الحديث عن  أشخاص يعملون ويكسبون دخلاً لا بأس به يتجاوز حد الفقر، ولكن ظروف عملهم ومعيشتهم من الهشاشة وعدم الاستقرار ما يجعلهم مهددين باستمرار بالوقوع في دائرة الفقر مع أي تغير سلبى غير متوقع، سواء كان ذلك لأسباب شخصية (مثل الإصابة بالمرض أو الفصل من العمل) أو لأسباب قطاعية (مثلما هو حال من يتعرضون لتقلبات التشغيل فى قطاعي البناء والسياحة ) أو لأسباب محلية (حينما يصيب الاقتصاد ركود عام) أو لأسباب دولية أو إقليمية (كما حدث وقت عودة العمال المصريين من ليبيا). أو بفعل سياسات اقتصادية تسببت في ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار بصورة تفوق الدخل المادي للمواطنين، أو بسبب عدم وفرة الإنتاج والصعوبات التي تواجه المواطنين في الحصول على السلع والخدمات.

ولما كانت العدالة الاجتماعية شعاراً براقاً في كل الثورات التي شهدتها الدولة المصرية وكانت ولا تزال مطلباً أساسياً وحيوياً لاستقامة كافة السياسات التي تتبناها الدولة، فلا يمكن رسم سياسات للحماية الاجتماعية دون الاحتكام إلى مبدأ العدالة الاجتماعية الذى يقوم على تكافؤ الفرص بين المواطنين والمساواة في الحقوق والواجبات وتعزيز وترسيخ قيم المسئولية الاجتماعية بين المواطنين والتي تعني من ناحية مسئولية الأفراد وضرورة أدائهم لواجباتهم تجاه المجتمع، وذلك في مقابل ما يتمتعون به من حقوق، وما يقدم إليهم من خدمات .وتعني من ناحية أخرى مسئولية الحكومة عن إشباع احتياجات المواطنين، وذلك في مقابل مشاركة المواطنين في كافة مجالات التنمية والرعاية الاجتماعية وذلك من خلال المبادرات الشعبية والجمعيات الأهلية.

وعموماً فقد تعددت وتنوعت الوسائل والأساليب التي تستخدمها دول العالم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والتوازن في معدلات التنمية سواء بين أقاليم البلد الواحد، أو بين الريف والحضر، أو بين أحياء المدينة ذاتها، ومن الطبيعي أن تختلف هذه الوسائل من دولة لأخرى، وذلك لأن تحقيق العدالة الاجتماعية يعتمد على مصفوفة ضخمة من المتغيرات التي يجب وضعها في الاعتبار عند صياغة الاستراتيجية العامة للتنمية والحماية الاجتماعية، ومن بين هذه المتغيرات طبيعة التناقض بين الريف والحضر، ومستوى التطور الاقتصادي والإنتاجي، وأحجام الأحياء والقرى الصغيرة، بالنظر إلى الأحياء والقرى الكبيرة، ومراكز التركز السكاني، ومناطق الجذب السكاني في المدن، فضلاً عن متغيرات أخرى كثيرة مثل حجم الاستثمارات المخصصة لكل محافظة، وتنمية القرى والمدن في إطار خطة تنموية قومية، وتعتبر هذه المتغيرات بمثابة مؤشرات عامة لتحقيق العدالة الاجتماعية بوجهٍ عام.

سياسات الحماية الاجتماعية..الإجراءات والنتائج

كما أن تحقيق العدالة في سياسات وبرامج الحماية الاجتماعية يتطلب الأخذ في الحسبان التفرقة بين الإجراءات والنتائج، فليس من الضروري أن تؤدى الإجراءات العادلة إلى نتائج عادلة، فقد تؤدى إجراءات تبدو عادلة إلى توزيعات ليست عادلة للسلع والخدمات، وعموماً فإن تحقيق العدالة الاجتماعية، يتطلب أن يحصل الناس على خدمات تتناسب مع ما يستحقونه كمواطنين وما يحتاجون إليه ليعيشوا حياة كريمة وأمنة. بالإضافة إلى السماح بالتمييز الايجابي لصالح الفئات الضعيفة، مع تجنب الانحياز دون تمييز بين من يحتاجون إلى حماية اجتماعية شاملة، مع التركيز على ضرورة تغطية مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية للفرد والعمل على تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وفى النهاية فإنه إذا أريد أن يكون لسياسات الحماية الاجتماعية مردوداً ايجابياً على الأرض فيما يتعلق بالحد من الفقر والتخفيف من تداعياته مع الحفاظ على حجم وخصائص الطبقة الوسطى وخاصة في تلك الظروف التي تحمل عديد من المتناقضات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الأخلاقية، فإنه يجب أن تتضمن برامج الحماية الاجتماعية السياسات التالية:

(1 ) تبنى سياسات لحفز النمو المنحاز للفقراء : ويتطلب ذلك – إيجاد فرص عمل كافية لاستيعاب الراغبين في العمل في أعمال منتجة ومدرة لدخول تفي على الأقل باحتياجاتهم الأساسية، مع العمل على إنتاج سلع وخدمات تضم نسبة كبيرة مما يحتاج إليه الفقراء في إشباع احتياجاتهم الأساسية. بالإضافة إلى التحيز فى توزيع مشروعات التنمية في المناطق الفقيرة، وإعادة توطين بعض المشروعات في هذه المناطق. 

(2) تمكين محدودي الدخل من الحصول على أصول إنتاجية:

شهدت الدولة خلال الثلاثين سنة الماضية تغييرات اجتماعية واقتصادية مهمة تحت اسم الخصخصة التي تستهدف في ظاهرها توسيع قاعدة الملكية، والواقع أنها تنقل ملكية الأصول من مجموع الشعب إلى حفنة ضئيلة منه، وعندما يحدث ذلك؛ فإنها تعمل على تضييق قاعدة الملكية وتزيد بالتالي الهوة بين من يملكون ومن لا يملكون. ومن ثم فإن تمكين الفقراء ومحدودي الدخل  من ملكية مشروعات بعينها، يساعدهم على تطوير وتنمية هذه المشروعات بما يساعد على تنمية وتحسين مستوى معيشتهم.

(3) تنمية القدرات البشرية لمحدودي الدخل وتمكينهم من زيادة مشاركتهم في الإنتاج:

وتتضمن هذه السياسة تمكين الفقراء من الحصول على الخدمات الأساسية وبخاصة التعليم والتغذية والخدمات الصحية والإسكان، كما تتضمن تمكين الفقراء من الارتقاء بقدراتهم ومهاراتهم الإنتاجية، خلال برامج جادة لإعادة التدريب والإرشاد الإنتاجي .

( 4 ) تطبيق سياسات لرعاية محدودي الدخل وتحقيق الحماية الاجتماعية:

ويندرج تحت هذه السياسات، سياسات الدعم والضمان الاجتماعي والتأمينات والسياسات والبرامج الخاصة بتشغيل الفقراء والنهوض بمناطق تركزها، وتحسين مستوى تغذيتهم، ومد يد العون لهم ولغيرهم في حالة التعرض للأزمات والكوارث، مع ضرورة مشاركتهم في تخطيط وتحسين هذه البرامج والسياسات، وتدبير التمويل الكافي لها من أجل أن يكون لها تأثير محسوس على مستوى حياة الفقراء .

ومن المهم في هذا السياق بذل جهود كبيرة من أجل تعريف الفقراء ومحدودي الدخل بالبرامج والمشروعات الموجهة خصيصاً للنهوض بأحوالهم المعيشية وحمايتهم وتبصيرهم بكيفية  الاستفادة منها، مع العمل على ضمان وصول المساعدات والدعم لهم. إذ يفضل تقديم الخدمات الاجتماعية لمحدودي الدخل حيث يوجدون، بدلاً من انتظار تقدمهم إلى الجهات المعنية طلباً للمساعدة، وكل ذلك لا يمكن أن يتحقق دون تنشيط وتفعيل لدور الجمعيات الأهلية في مساعدة الفقراء وتقديم الخدمات الضرورية لهم.  ولهذا فإنه يمكن القول أن الجمعيات الأهلية أصبحت أداة فعالة في دعم برامج الحماية الاجتماعية . وأعتقد أن دورها الواضح والملموس في مبادرة حياة كريمة كشريك أساسي للحكومة عزز من وجودها على الأرض ووسوف يدفع الدولة إلى منحها مزيد من الحرية والدعم في السنوات القادمة. 

(5) تعزيز دور التحويلات وشبكات الأمان :

 هناك فئتان واسعتان يحتاجان إلى اهتمام خاص هما من يعجزون عن المشاركة في عملية التنمية، ومن يتعرضون للخطر مؤقتاً – المهددون بالفقر – عندما تتخذ الأحداث اتجاهاً غير موات، وتحتاج الفئة الأولى إلى نظام للتحويلات يكفل لها مستوى معيشى مناسب، وتحتاج الفئة الثانية إلى أنواع مختلفة من شبكات الأمان . وفى جميع هذه الحالات يكون العمل على وصول الدعم إلى مستحقيه أمراً لا غنى عنه لتحقيق التوازن بين التكاليف والمنافع . وإذا كانت نسبة الموازين أكثر ارتباطاً بالمناطق الجغرافية الفقيرة سواء في الريف أو الحضر، فإنه ينبغي إيجاد أنظمة للضمان الاجتماعي والعمل توسيع تغطيتها. بالتكامل بين قطاعات الدولة الثلاثة الحكومية والأهلية والخاصة.

(6)– إتاحة الفرصة للفقراء للحصول على الخدمات :

يتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية التزاماً واضحاً بإتاحة الفرص للفقراء للحصول على الخدمات الاجتماعية، وينبغي أن ينعكس ذلك في البنية التحتية، وفى تنظيم القطاعات الاجتماعية، وفى طريقة تمويلها.

(7)– الإيفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطنين:

حتى تستطيع الحكومات تحقيق الاستقرار في أي مجتمع، يجب عليها أن تهتم بتوفير الاحتياجات الأساسية للسكان من ملبس ومأكل ومسكن ومياه نقية، وكذلك توفير الخدمات الصحية، والتعليم إلى حد كبير، وإذا كان على الحكومة أن تلتزم بتوفير الرعاية الصحية والتعليم، فمن المتوقع أن تتعرض الدولة هنا لقضية العدالة والكفاية؛ ولذلك لجأت الدولة إلى الشراكة مع المؤسسات الأهلية لمساعدتها في الإيفاء بهذه الاحتياجات، حتى تضمن وصول برامج الحماية الاجتماعية للجميع سواسية.

وعموماً فإن نجاح سياسات الحماية الاجتماعية في تحقيق أهدافها في الحد من الفقر وتحقيق الحياة الكريمة للمواطنين مرهون بقدرتها على تبني برامج للحماية الاجتماعية تكون قادرة على تحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين في التعليم والصحة والعمل والسياسة، وفى كافة الحقوق الأساسية. وكذلك قدرتها على الحد من الإحساس بالفقر والحفاظ على الطبقة الوسطى وتذويب الفوارق بين الطبقات: وذلك بتبني سياسات للإصلاح الاجتماعي لا تقل أهمية عن سياسات الإصلاح الاقتصادي والتي تبنتها الدولة في 2016 مع تقليل الاعتماد على القروض في تمويل برامج الحماية الاجتماعية وتوحيد السياسات الائتمانية، ليصبح للمشروعات الصغيرة في مصر “أب شرعي واحد”، فالمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر هي الأمل في تجاوز الأزمات الاقتصادية والخروج من النفق الاقتصادي الضيق إلى النفق الأوسع على أعتاب الجمهورية الجديدة .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى