المركز الاعلامىمقالات

صلاح هاشم.. مجاور في حب الوطن

صلاح عتريس

لم يكن سقراط  فاقدًا للأهلية حين قرر بإرادته الحرة أن يتجرع السُم، ليضمن الخلود لقناعاته وأفكاره، رافضًا حياة بلا مبادئ بجسد سيفنى،  كان واعيًا تمامًا أن ثمن نجاته أن يسقط من عيون تلاميذه، قبل أن يسقط هو أمام ذاته، مستنكفا أن يخون نفسه وتابعيه بحياة تناقض ما علمهم إياه، كيف يستبشر بنجاة كانت ثمنها خيانة الجنود، وهو الذي ينادي بحق الأوطان وواجبات من ينتمي إليها،  كان سقراط على حق، فلو استجاب لغريزة البقاء ما كنا لنذكره الآن بعد ثلاثة قرون من رحيله، ودون أدنى مجاملة أتذكر سقراط ومن على خطاه كلما قرأت خواطر الدكتور صلاح هاشم، فهو أذكى من أن ينادي بما لا يشبهه، شخصية عامة، منتشرة، لا يؤذن من مكان مرتفع، بل بين الناس، متلاحما مع تلاميذه بالجامعة، واتباعه ومساعديه في العمل العام، فلا يكتب إلا ما يتطابق مع صورته الذهنية عند من يؤذن بينهم.. كانت تلك مقدمة لابد منها، لتكون المسلمة  الملزمة لنظرتنا لما يطرحه من خواطر.

متصوف مختلف، ليس بالمعنى الشائع عن المتصوفة،  لم يختر الاعتكاف إلى جوار أضرحة الأولياء، هو اختار أن يجاور ضريح الوطن، نعم، الضريح بمعناه الشائع، جسد بلا حراك، أقامه هو ضريحا افتراضيا للوطن، اعتكف إلى جوار الضريح. وكل صباح ينتهي من صلواته ثم يقترب أكثر ليلقي تحية الصباح ليستنهض كراماته مؤمنا أن (تحت القبة شيخ) كيف لا يؤمن بذلك وهو يرى تلك الكنوز التي طفت فوق أرض وطنه ومثلها تحت ترابه.

 

 

حين أراد أن يقدم نفسه كخادم للضريح، قدم نفسه نافيًا توصيفات استغلها أهل الادعاء فانتقصوا من بهائها فقدم نفسه في خاطرة قال فيها (لستُ شاعرًا ولا حكاءً، لكنني إنسانٌ.. عاشَ في بطنِ مصر؛ فعاشت مصرُ كلها في خاطره!) هو لم يستخدم الرحم، بما يحتويه من حماية ومعايير نمو، إنما استخدم البطن بكل ما فيها من داء، إذن هو يعترف بأنه عاين الداء معاينة نافية للجهالة ولكونه بارًا، لم يتهرب من مصائبها، بل ظل وجعها يلاحقه حتى أدخلوا لأول مرة في مجال التنمية  مصطلح الحماية الاجتماعية ليداوي كافة المواجع، وقاتل من أجل نشر هذا المصطلح علما وتطبيقا وخاض معارك قام بتوثيقها  في خاطرة (أرقى المعارك التي يمكن أن يخوضها الإنسان هي المعارك التي يدافع فيها عن مبادئه.. فمهما كانت الخسائر فصاحبها منتصر!)  هذه الكلمات لا تخرج إلا من متصوف يرى الجمال في كل قبح، ويستيقظ من جديد ويلقي تحية الصباح على الضريح (بحكم مساحة النور التي في قلبك تستطيع أن ترى مالا يراه الآخرون.. ترى أكثر مما يجب.. المهم أن تتحمل وحدك تبعات الرؤية،  وأن تتقبل أن يكون على لسانك قيد من حديد! فليس كل ما تراه زيادة عن البشر  ينفعك.. فكثير ما تكون المعرفة كالجبل أعانك الله على حمله!) ويقر هنا أن معاناته جاءت بسبب معرفته وياليته ما سكن البطن، ياليته اكتفى بتلك الشهور بالرحم ثم ترك الجمل بما حمل وحلق في سماء اللامبالاه.. ثم يتجول في عبثية الوجود  (نحن موجودون هنا لا لشيئ سوى لأننا نحب الحياة وأن الحياة تريدنا أن نكون هنا في نفس المكان في ذات الوقت من عمر التاريخ.. وأن يبقى الخيار دائمًا بين أن نعيش أو لا نعيش.. وليس مطروحًا  أبدا خيار “أن نعيش في سلام” كخيار ثالث للحياة) وما كان لمتصوف أن يصبح أسيرًا للأفكار العبثية، ويشعر أن هناك من ساق إليه تلك الأفكار ولم يقاومها من فرط تجاربه التي أنتجت أعداء لم يكن يتوقعهم، فيستدعي همته يعود للضريح من جديد ليقدم مبرراته ويسوق ورد جديد (حين تمتلك القوة يجب أن تعامل المخالطين بك على أنهم “أعداء محتملين”!) يؤمن بنظريات المؤامرة، يحتاط ممن يجاوره، يعلم أن للوطن كنوزًا تمنحه القوة.. قوة يخشاها الأعداء فيقتربوا ويتقربوا، وسيكشفون أقنعتهم وقتما أرادوا، يشعر بالاستكانة وهو يجاور الضريح فيهب إلى عتبة الضريح ويؤذن (يظلُ الإنسان حيًا مادامَ ضميرهُ صحيحًا لا يقبلُ القسمةَ على اثنين.. فالضمائر كالشعوبِ قوتُها في تماسكِها) يعلم تمامًا أن الضمائر تخوض حربًا شرسة مع تلك الضغوط التي أسقطت الجميع في بئرها المظلم، وعلى وشك أن  تقدم استقالتها، ويتراجع صوتها، ولم يدع انشغاله بالضمير الذي يملآ حيزًا كبيرًا من خواطره فيقول (لا شك أن “الضمير” نعمة، لكنه نعمة مزعجة.. وأنه دليل كاف على بقاء الإنسان على قيد الحياة، وسبب كاف لتعاسته!) وبين الضمير والمعرفة تتأرجح عذاباته،  فيحاول إدراك الأمر قبل فوات الاوان، فيشعر بالمسافات البعيدة بينه وبين من يؤذن فيهم، فيصيبه اليأس، ولكن قبل أن يستسلم له يحقن نفسه بجرعة بصيرة (مساحة النور التي في قلبك لا تملأها المسافات.. إنما يملأها القرب واليقين والتجلي.. لا تشرد فتتقاسم الشياطين قلبك!) فيأخذ نفسا عميقا، ويضع قدمه على عتبة باب الضريح الخشبية ويهدد بأعلى صوته (حين تموت سيرحل معك كل شيئ الإ أعمالك.. سوف تظل باقية.. تتحدث عنك بصدق دون مواربة! تسلمت في البرزخ دفتر أحوالك اليومية وسوف يرحل معك إلى الله كتاب، كُنت قد سطرته بيدك. سوف يُقرأ عليك حرفًا حرفًا، أو تقرأه؛ فاختصر! ولا تكتب بيدك غير الذي ينفعك.. ولح على الله في طلب العافية والستر وحسن الخاتمة!) نعم فكافة الأنشطة التى يقوم بها ابن آدم يتم توثيقها في سطور، ستكون في كتابه الدائم، وفي حضنه الدائم، وعليك احتضان ما كتبت، ويتجلى المتصوف المستنير ويضع علاجا لكل داء، علاج واحد يكفي بإزاحة كافة الأمراض التي أحاطت بالنفوس ويوثقه في وصفة إنسانية  صغيرة بديعة (الحب وحدهُ يكفى! مهما كان شكلك أو نوعك أو جنسك أو سنك أو عقيدتك.. في كل القلوب التي حولك يوجد على الأقل قلب واحد أنت أجمل ما فيه فلا تخسره.. اسعى إليه بلا ملل.. فالطريق إليه موصول بالحب، والحب لا يحتاج إلى منطق لتبريره.. فالحب وحدهُ يكفي) نعم الحب وحده يكفي، إنها أفكار وقناعات المتصوف  المستنير  ورحم الله شيخي أحمد البسفي الذي إذا عبر عن نفسه قال (وما أنا إلا مؤذن يقول حي على العلم من أجل الادب وحي على السلام من أجل الحب، ألا أدلكم على شى إن فعلتموه تحاببتم، افشوا السلام بينكم) وهكذا يعاود الدكتور صلاح هاشم الآذان، وعينه على ضريح الوطن، وقلبه ممتلأ بالأمل.  ويحدث نفسه (لا بأس.. غدًا ستكون الأمور على ما يُرام.. أنت لست بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الصبر.. لكنك بحاجة أكثر إلى الفهم.. كيف يدبر الله الأمر وكيف يدير شئون ملكهِ.. وتفهم الطريقة التي يحبُ بها عباده الطريقة التي يعبر بها عن محبته.. فإذا فهمت عرفت.. وإذا عرفت صبرت.. والصبرُ مفتاحُ الفرج) في ظاهر السطور دعوة إلى الفهم، ولكن المتامل لباطنها يجد اتهامًا صريحًا للبعض بغياب الفهم  وحضور الجهل الذي خلق هذه الاضطرابات في التلقي، وأحدث الدوامة التي إلتقمت أصحاب العقول النيرة، ولان تلك العقول ثقيلة بالنور استقرت بالعمق، وأصبح سفح الماء فريسة سهلة لأصحاب العقول الفارغة التافهة المظلمة. وكيف لا تطفو وهي كالعشب  لتشكل ظواهر إجتماعية تجذب الانتباه وترغم الأجيال للاحتفاء بها.. الدكتور صلاح هاشم تجربة إنسانية تستحق  الدراسة لنتعرف على تلك الأسباب التي ساقت إلينا هذا النموذج الفريد. فبالتأكيد  كانت نشأته هي المصدر الرئيسى لاندفاعه ناحية أوجاع الناس ثم تجربته الأكاديمية التي عمقت ملامسته لدموعهم، وتتوجت بمبادراته التنموية، التي مكنته أحيانًا من تحقيق أحلامهم، فوصل إليهم في كل رقعة بدءً من النجوع حتى أروقة الجامعة من خلال وحدات التضامن التي أسسها وأشرف عليها بالجامعات المصرية. والمدهش أنه لم يفكر في مخاطبتهم مباشرة في خواطره. يعلم أن لا وقت لديهم ليقرأوا. ولو قرأوا لتعمقت جراحهم. فكان دوما يخاطب المسؤل عنهم.  مهموم هو بالطبقات المهمشة عيال الله ويؤمن بأنهم ثروة بشرية لو نالت الاهتمام والرعاية والحماية لاهتز الضريح وظهرت كراماته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى