عدالة القدر في الدراما المصرية

بحكم النشأة والتكوين أجدني أميلُ دائماً إلى أي عمل فني يعبر عن الصعيد وقضاياه .. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي الذي جعلني أتابع بشغف مسلسل ” فهد البطل ” للكاتب الشاب محمود حمدان وبطولة النجم أحمد العوضي . وعادة ما أتابع الأعمال الدرامية في سياق قيمي ، وأن تقييمي لأي عمل ابداعي عادة ما يكون بمدى إسهامه في تكريس القيم النبيلة أو إرساء قيم جديدة أو محاربة قيماً فاسدة، وذلك لإيماني العميق بما يمكن أن تقوم به الدراما في تنمية الوعي الإنساني وتشكيل سلوكيات الإنسان اليومية، وبناء عقليته في التعامل مع القضايا العامة وتشكيل رؤيته الكلية لمجتمعه وعالمه المحيط .
ومن هذا المنطلق تورطت في مشاهدة مسلسل ” فهد البطل ” الذي نال شغفي بقوة منذ الحلقة الأولى من عرضه في مارثون رمضان 2025 وجعلني أضع مشاهدة المسلسل على أجندة ممارساتي اليومية، أملاً في الاستمتاع بحدوتة جديدة عن مجتمع افتقده من سنين رغم أنه يعيش في خاطري .
وبالنظر إلى المسلسل من منظور الاثارة والمتعة نجده لاقى نجاحاً جماهيرياً واسعاً ، ومن منظور القيمة الفنية والإنسانية للعمل فلنا هنا وقفة طويلة . ولنبدأ بطرح سؤالي محوري تقليدي حول الرسالة التي أراد صناع المسلسل توصيلها إلى المشاهدين. أي السؤال هنا عن القيمة الفنية والاجتماعية والإنسانية للعمل. في توقيت نعاني فيه جميعاً من تراجع حاد في منظومة القيم .. ومن مسلمة مفادها “أن أي عمل ينفق عليه من أموال الشعب يجب أن يعود بالنفع على الشعب”.
وربما يجيب صناع العمل على تساؤلي عن الرسالة التي يستهدفها المسلسل بأنها تتعلق بتكريس قيمة عدالة القدر.. وأن لكل ظالم نهاية .. ولابد من يوم معلوم ترد فيه المظالم .. مما يجعلني أتسأل ثانية عن المسئول عن رد المظالم .. فإذا كنا موقنين بعدالة القدر فلا يمكن بحال أن نكون مجرمين لكي نرد المظالم .. وليس من المنطق أنه من أجل أن نقتل فأراً في الجرن نحرق الجرن بأكمله ..!
إذن لدينا مشكلة في منطق التعامل مع قضايا الظلم، وآليات تحقيق العدل. ولا أبالغ إذا قلت بأن لدينا مشكلة في الايمان بعدالة القدر.. إذ أن الايمان بعدالة القدر تجعلنا أكثر عدلا في انتخاب طرق الوصول إليه أو تحقيقه.
فلو افترضنا أن الهدف من المسلسل هو إعادة طرح قضية عدالة القدر ..فالسؤال هنا يطرح نفسه من جديد :هل أقنعت أحداث المسلسل ونهايته المشاهد بعدالة القدر ؟ وأنا هنا كمشاهد أًجيب :طبعا لا .. فقد احبطتني نهاية المسلسل وجعلتني أشعر بأن الحياة غير عادلة. فالذي كُتب عليه الشقاء فسوف يعيش شقياً ويموت شقيا .. وأن من الخلق صنفاً خلق لكي يعيش على معاناة البشر .. ولدي في ذلك جملة من الأسباب. أولها: يتعلق بالأم ” وفاء ” الضحية الأولى في تصوري ، حيث فقدت زوجها الذي تحبه كما فقدت طفليها في الصغر، وأجبرتها الظروف على الزواج من القاتل وأن تنسب طفلها المتبقي له وتعيش عمرها تحت التهديد بالقتل أو من الحرمان من الإبن ثم تموت مسمومة مشكوك في شرفها ومتهمة بجريمة قتل لم ترتكبها.. فهل تحققت عدالة القدر مع أم عاشت مكلومة وماتت مسمومة ..؟ فلم يقدم المسلسل للمشاهد مشهداً واحدا يعبر عن عدالة القدر من “عجيبة” المرأة التي عاشت محفزة على القتل مشاركة في أحداثه .. !
وهنا نأتي إلى “فهد البطل” الضحية الثانية في المسلسل وهو العمود الأساسي للحدوتة والذي قتل تقريباً أو شارك في قتل أو تدمير معظم المشاركين في الحكاية؛ بدعوى الحصول على حقه من عمه القاتل .. وهنا انحراف قيمي في غاية الخطورة، ومعالجة سامة لقضية رد المظالم .. فمن أجل الانتقام من شخص واحد قام فهد بالاتجار في المخدرات، وقتل عدد من الأشخاص لينال ثقة القاتل .. بمعنى أنه تاجر بالمخدرات وقتل آلاف الشباب من أجل رد أرض الفلاحين التي اشتراها “غلاب ” عنوة منهم .. والجمهور كالعادة يصفق للبطل الذي يقتل ويسرق ويتاجر في المخدرات ويعددون له الأعذار وذلك كله من أجل أن يقتص من غلاب الذي هو بالنهاية رجل عقيم وريثه الوحيد هو عمرو أخوهم الثالث.. وبالنهاية يقتل الضحية الذي هو فهد البطل غريمه ” غلاب ” وكأن المؤلف لم يستطع أن يفرق بين “غريزة الإنتقام” وعقيدة الإيمان بـ”عدالة القدر ” .. فهل بقتل البطل غلاب الظالم كان قد استرد حقه المسلوب؟! خاصة أنه سوف يتم إعدامه مقابل ارتكابه جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد. فهل كرست نهاية المسلسل بهذا الشكل قيم الإيمان بعدالة القدرـ أم أنها عززت لدى المشاهد شهوة الإنتقام؟!
أما الضحية الثالثة فهى “راوية” تلك الفتاة الشقية التي حرمت من أمها مبكراً وعاشت في ملجأ مع أطفال الشوارع باسم مزيف، ولكي تعيش عملت في أسواء الأماكن وتعاملت كأنثى مع أحقر أنماط البشر، فقد تم اغتصابها ومحاولة قتلها وحرمانها من الشخص الذي تحبه ويحبها، وانتهت الأحداث بأنها قُتلت من يدٍ غادرة، دون أن تسترد حقها ،أو تتزوج الإنسان الذي تحبه ..فهل تحققت مع راوية إذن عدالة القدر ؟ً!
ونأتي هنا للضحية الرابعة وهو الضابط ” عمرو ” الذى قُتل أبوه في الصِغر ،وتم حرمانه من أخوته، وعاش مع رجل غريب على أنه أبيه، وقتلت أمه ولم يستطع برتبته البوليسية حمايتها، وحين وجد أخوته فقد وجد أختٍ مقتولة وأخٍ متورط في قضية قتل مع سبق الإصرار ومصيره الإعدام أو السجن، واستقال هو نفسه من وظيفته التي يقدسها .. فهل تحققت إذن مع عمرو عدالة القدر ؟!
ربما كان هذا هو الجزء الأول من التحليل والمتعلق بالضحايا أصحاب الحقوق ..أما الجزء الثاني المتعلق بالطغاة أو المجرمين الحقيقين. فلابد لنا أن نبدأ بـ” هاشم” طليق كناريا شرع في بيع ابنته واغتصب راوية وشرع في قتلها، و انتهت الأحداث بالقبض عليه واتهامه بالشروع في قتل، والتي عقوبتها السجن المشدد.. ولم يحاسب لا على جريمة الاغتصاب ولا على بيع ابنته .. فهل تحققت مع هاشم إذن عدالة القدر ..؟!
أما “العمدة غلاب” الذي جسد شخصيته باقتدار النجم أحمد عبد العزيز وهو محور الشر في المسلسل لم يعش لحظة عذاب واحدة، فقد قتله الضحية وقدم نفسه لحبل المشنقة.. فأين عدالة القدر إذن ..؟! إذا كان الظالم حتماً سوف يموت عاجلاً أو أجلاً سواء بالقتل أو بدون..!
أسئلة كثيرة تتعلق بالرسالة التي أراد صناع العمل أن يقدموها للجماهير أهمها ماذا تحقق للضحايا من عدل وهم بين مقتول ومسجون ومقال أو محروم ..ماذا استفاد عمرو من معرفة الحقيقة سوى الوجع ، وأن معرفة الحقيقة كانت سبباً في ضياع مستقبله الوظيفي وحرمانه من أمه ..؟!
أعتقد أن الرسالة الوحيدة التي وصلت للجماهير هى الاستسلام للقهر وانتظار البطل المخلِص، وأن كل الجرائم مباحة ما دامت سوف تساعدنا في استرداد الحقوق.. أي أن رسالة المسلسل تتلخص في تعميق إيمان الناس بأن الغاية تبرر الوسيلة، حتى وإن كانت الغاية تافهة وأن تكلفة الوسيلة أغلى من الغاية بكثير.. أو كما يقول الصعايدة ” الجنازة حارة والميت كلب ” ..!
لا أبالغ إذا قلت أن رسالة هذا العمل الدرامي المُكلِف هو تعزيز روح الانتقام لدى الناس .. وأن الإنتقام في ذاته هدف يستحق أن يموت الإنسان من أجله .. هي رسالة داعية للعنف وتشويه الايمان بعدالة القدر .الذي إن ضاع تحولت الحياة إلى غابة وتحول الناس إلى وحوش ضارية ..!