
يعتقد البعض دائماً أن الاقتصاد كعلم وجد لنقل الأشخاص والمجتمعات والدول من حالة الهشاشة إلى النمو ومن الفقر إلى التنمية. وأن هذا العلم يملك عصا سحرية لتطوير المجتمعات ،خاصة إذا كانت معدلات النمو الاقتصادي مرهونة بمعدلات نمو سكاني مضبوطة أيضاً . دون أن يتحدثون عن ما يمكن أن يفعله النمو الاقتصادي في المجتمعات إن لم يصحبه تنمية اجتماعية وإنسانية رفيعة المستوى. وثقافة تستطيع أن تستوعب النمو الاقتصادي وتحافظ على مكتسباته دون الاخلال بملامح الهوية الوطنية وبمنظومة القيم الإنسانية التي تحكم المجتمع وتعمل على استقراره وتطوره.
فالاقتصاد بمفهومه التقليدي يتضمن عدداً من المفاهيم التقليدية والتي لوحظ من التجربة العلمية أن تحقيقها لايعني بالضرورة تحقيق الرفاهة الاقتصادية؛ ومن أبرز تلك المفاهيم: أهمية ارتفاع معدلات الإنتاج، ضرورة زيادة معدلات النمو الاقتصادي مع زيادة النمو السكاني بهدف تحسين مستويات المعيشة، إلا أن ذلك لا يتحقق دوماً بل قد يكون لزيادة معدلات النمو آثار سلبية كالتدهور البيئي، والتفاوت الاجتماعي. الأمر الذي جعلنا نتسأل: لماذا لم تتقدم الدول بنفس المعدل في النمو ما دامت جميعها تهتم بالاقتصاد، وتسعى جميعها إلى الاستفادة من تجارب بعضها ..؟ والاجابة أن ثقافة الاقتصاد بين الدول ليست واحدة وأن التداعيات السلبية للنمو الاقتصادي دفعت الخبراء إلى طرح مفاهيم جديدة تتعلق بالنمو الاقتصادي السلبي وتكون بمثابة محاذير يجب أن تتجنبها الدول الناشئة في سعيها الحثيث نحو التنمية. حيث تم طرح خمس مفاهيم أساسية اعتبرها ليس فقط محاذير يجب على صناع التنمية تجنبها وإنما هي بمثابة قضايا أساسية في طريق التنمية المستدامة بوجه عام، وتسمى بوجه عام بالاقتصادات غير المواتية” ومن أمثلتها: ” النمو بلا وظائف” حيث ينمو الاقتصاد ولكن لا ينمو التوظيف ، ومن ثم يتزايد معدل البطالة وتتراجع فرص التشغيل. وكذلك ” النمو القاسي” حيث لا يفيد النمو الاقتصادي إلا الأغنياء فقط حيث تتزايد طبقة الأغنياء على حساب ارتفاع معدل الفقر أو زيادة الضغوط الواقعة على كاهلهم في أحسن الصور.
أما النمط الثالث من الاقتصاد غير المواتية فيسمى بـ” النمو بلا جذور” حيث يفقد النمو الاقتصادي جذور الناس الثقافية، كالطبقات الطفيلية التي ظهرت إبان الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات من القرن العشرين والتي كانت سبباً كافياً في ارتفاع معدل الاستهلاك وانحدار مؤشرات التنمية . أو حين لا يكون النمو الاقتصادي متمشياً مع ثقافة المجتمع مناهضاً لها أو مناهضة له. وأخطر أنماط النمو الاقتصادي هو ” النمو بلا مستقبل” والذي من خلاله يبدد الجيل الحالي الموارد التي تحتاجها الأجيال القادمة، ويصبح النمو الاقتصادي عثرة كبيرة في طريق تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وعلى الرغم من أن الحفاظ على مستويات مرتفعة من النمو الاقتصادي يعد أحد أهم أهداف التنمية المستدامة، إلا أنه يجب بجانب الاهتمام بجودة النمو وحجمه، و التأكد من أن هذا النمو لا يلحق ضرراً بالنظام البيئي والقيمي والثقافي في المجتمع، وكذلك لا يجور على حق الأجيال القادمة في العيش الكريم في مجتمع إنساني عادل ومستدام. ومن ثم تصبح كل الفئات التي تخرج عن الاستهداف برامج النمو السابقة هي جميعها فئات مهددة بالفقر.
ولما كان مفهوم الفقر إذن يختلف باختلاف مفهوم الإنتاجية فلابد إذن أن يختلف مفهوم الاستهداف الاجتماعي والقماشة التي يجب أن يعمل عليها ليشمل المهددين بالفقر . الذين يقصد بهم الأفراد الذين يعملون ولكن ما يكسبونه من عملهم يزيد قليلاً عن المساعدات التي يتلقاها مستحقو المساعدة من الضمان الاجتماعي أو نظم المساعدات العامة. ولا يجب أن يشمل الاستهداف الاجتماعي الفقراء الذين يعتبرون كسالى جداً. ولا يقبلون على العمل أو المخادعين الذين يحتالوا على خدمات الدولة لكي يحصلون على دعم غير مستحق لهم. وهنا لابد من القول بأن السياسات التي تتبعها الدول لتحقيق أهداف تنميتها المستدامة لن تنجح مالم تتبنى هذه الدول نفسها سياسات مناصرة للفقراء تستهدف برامجها تحقيق مصالح الفقراء بشكل مباشر. فافضل طريقة للقضاء على الفقر هي التعرف على الفقراء وخصائصهم وتخصيص سياسات موجهة مباشرة إليهم، بدل من تشتيت الجهود.
وخلال السنوات القليلة الماضية تردد مفهوم الاستهداف الاجتماعي كثيراً على ألسنة المسئولين عن مواجهة الفقر وفى كثير من السياسات الاجتماعية باعتباره إحدى آليات الحكومات في تجفيف منابع الفقر أو تخفيف من تداعياته . فعلى أساس الاستهداف يتم تحديد الفئات المستهدف بأوجه الدعم الذي تقدمه الحكومات . على اعتبار أن الاستهداف مفهوم إيجابي، وليس مفهوماً سلبياً بامتياز . فالاستهداف الاجتماعي هو عمل مقصود من أجل تبرير اعتماد سياسات تعزل الفقراء عن باقي السكان وتخصهم بسياسات اجتماعية دون غيرهم.
وعلى أساس إظهار أن نسب الفقراء في المجتمع محسوبة بشكل علمي، لا يجب التلاعب بتعريف الفقر، من أجل حصر الفقراء في أضيق نطاق لا يزيد عن الـ 20 % من جملة السكان. فسياسة عزل الفقراء عن باقي السكان، تعني ضمنا أن سبب الفقر يكمن حصراً ضمن دائرة الفقراء، وليس منتجا اجتماعيا لسياسات اجتماعية واقتصادية خاطئة. كما تعني أيضاً عزل النتائج عن الأسباب، وعزل الفقر عن الافقار وآلياته، وعزل الفقر عن التفاوت واللا مساواة…. وهذه كلها تقود إلى سياسات موضعية غير فعالة. ربما تزيد من حدة الفقر أكثر من أن تعمل على تجفيف منابعه ..!
وإذا كنا في هذا المقال قد حذرنا من الوقوع في احد أنماط الاقتصادات غير المواتية؛ فإننا نحذر هنا من الاستخدام الخاطئ لفكرة الاستهداف الاجتماعي التي تقوم على عزل الفقراء من أجل تقديم مساعدات خاصة إليهم دون غيرهم . فتقليص أعداد الفقراء ربما يبرر سياسات الاستهداف، لكن التجارب الناجحة تؤكد أنه عندما تكون نسبة الفقر في المجتمع كبيرة لا يصح مبدأ الاستهداف من الاساس. وهنا يجب أن نؤكد على أنه ليس من الجيد أن تحدد الحكومات أعداد الفقراء وتحدد قيمة الدعم المقدم لهم ثم تعلن رفع أسعار السلع .. فزيادة التضخم تحيلنا بالضرورة إلى إعادة الاستهداف .. ولا يمكن بحال تحديد قيمة الدعم النقدي بشكل عشوائي دون دراسات حقيقية تحدد خط الفقر .. فالترتيب المنطقي للأحداث يجب أن يكون يبدأ برفع الأسعار ثم تحديد خط الفقر لتحديد الحد الأدنى التي يجب ان يحصل عليه الفقير من الدعم ثم تحديد سياسات الاستهداف الاجتماعي لتحديد الشرائح التي يجب أن تستفيد من الدعم النقدي. فأعداد الفقراء قبل موجات الغلاء رقم وبعده بالتأكيد رقم أخر ..!
.