مقالات

مصير العمل الإنساني في ظل التعقيدات السياسية

بقلم د. رامي الناظر

منذ بداية السابع من أكتوبر وحتى الآن، شهد العمل الإنساني تحديات غير مسبوقة، حيث تعرّض بجميع أشكاله ومجالاته للهجوم والتعدي. بدءًا من الانتهاكات الصارخة التي استهدفت الفرق الإنسانية على الأرض، والتي تجاوزت حدود المعقول، وصولًا إلى كسر القواعد والمنظمات الدولية والقوانين الثابتة التي تأسست لحماية منظمات العمل الإنساني والعاملين فيها. لقد ظننا، طوال العقود الماضية، أن الالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية كفيل بحماية فرق الإغاثة من التجاوزات، لكن الواقع اليوم يفرض علينا إعادة النظر والتأكيد على ضرورة تعزيز وتحديث هذه القوانين لضمان استمرار العمل الإنساني دون تهديدات أو مخاطر.

لقد أنشأنا، عبر الزمان، بمبادراتنا الإنسانية، مؤسسات أكاديمية ومعاهد متخصصة تهدف إلى نشر وتدريس المبادئ الإنسانية وقيم التسامح والحياد، بالإضافة إلى القوانين الإنسانية، لتمكين المجتمع من أداء دوره بشكل فعّال؛ مجتمع يؤمن بحق المريض والمصاب في تلقي الرعاية الصحية بجودة، سواء في ظروف السلم أو الحرب. هؤلاء الأفراد الذين يعملون في الصفوف الأمامية من المساعدات الإنسانية، يتجاوزون الحواجز العرقية والفئوية، ويعملون وفق مبدأ أن المبادئ الإنسانية لا تتجزأ، وأن الكرامة الإنسانية تستحق الدعم والتكاتف من الجميع، بغض النظر عن الخلفية أو اللون أو الجنس.

لقد أثبتت منظمة الهلال الأحمر، بمكوناتها المختلفة، وعلى رأسها الهلال الأحمر المصري والفلسطيني، أن العمل الإنساني لا يتوقف تحت أي ظرف، وأن الإرادة والعزيمة يمكن أن تتغلب على أصعب الظروف. على مدى أكثر من 600 يوم، انخرطت هذه المنظمات في عمليات إغاثة وإنقاذ غير مسبوقة، حيث عملت بلا كلل أو ملل لإيجاد حلول عملية وخطط مستدامة لخدمة أكثر من 2.5 مليون متضرر، من بينهم أطفال، ونساء، وشيوخ، وعائلات تسكن المناطق الأكثر خطرًا وتضررًا. لقد واجهوا تحديات لوجستية هائلة بلغت حدود المستحيل، لكن روح الإصرار والتفاني كانت دائمًا السائدة، وأظهرت أن الإنسان قادر على أن يتحد في وجه الأزمات لتحقيق الهدف الأسمى: إنقاذ الأرواح وتخفيف المعاناة.

كان على عاتق الهلال الأحمر المصري مسؤولية كبيرة في وضع آليات عمل مرنة وفعّالة، تتيح له التعاون بشكل وثيق مع كافة المنظمات الإنسانية حول العالم، بما يشمل الأمم المتحدة، والمنظمات غير الحكومية، والحكومات، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والمتطوعين من مختلف البقاع. كل هؤلاء كانوا يسعون لتحقيق هدف واحد، وهو تقديم يد العون لإخوانهم وأخواتهم المحتاجين، بمختلف الوسائل والأساليب. كُلّفت فرق العمل بوضع خطط دقيقة لتقييم الاحتياجات، والتنسيق في عمليات وصول المساعدات إلى الأراضي المصرية، ثم إلى قطاع غزة، الذي يعاني أكثر من غيره من قسوة الحرب والانتهاكات. لقد تطلب هذا العمل جهدًا دؤوبًا، يترافق مع تخطيط استراتيجي وتنفيذ سريع، لضمان وصول المساعدات بشكل فعّال وفي الوقت المناسب.

وفي إطار ذلك، تعامل الهلال الأحمر مع مختلف أنواع المساعدات التي تحتاجها المجتمعات المنكوبة، سواء كانت مواد غذائية، أو مياهًا نظيفة، أو أدوات طبية، أو أجهزة طبية حديثة، أو مشتقات بترولية، أو تطعيمات وأدوية ضرورية لإنقاذ الأرواح. كما أن اختلاف اللغات والعادات بين البلدان والمنظمات المختلفة لم يُعقّد من عمليات التقييم والتنسيق، بل زاد من إتقان العمل واحترافيته. فكانت هناك جهود مشتركة لتحقيق أعلى درجات الكفاءة في تنظيم عمليات الإغاثة، وتوحيد الجهود في إطار تنسيقي مرن وفعّال، لضمان أن تصل المساعدات إلى من يستحقها، في الوقت المناسب، وبالطرق الصحيحة.

طوال هذه الفترة، تضافرت جهود أكثر من 100 دولة، و200 منظمة إنسانية، بالإضافة إلى ملايين الأفراد المتطوعين، الذين تشاركوا في خدمة الإنسانية عبر العالم. كل هؤلاء، رغم اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم، تجتمع قلوبهم على هدف إنساني واحد، وهو العمل من أجل إنسانية مشتركة، وتقديم المساعدة للمحتاجين في أصعب الظروف. لقد شكّلت تجربة هذه المرحلة درسًا عميقًا في التضامن العالمي، وأظهرت أن الإنسانية تمتلك طاقة هائلة عندما تتوحد الجهود.

إن ما يحدث هو بمثابة جرس إنذار للمجتمع الدولي، وعلى رأسه المنظمات الفاعلة في العمل الإنساني، التي تقع على عاتقها حماية المدنيين والعاملين في هذا المجال. إن الإيمان بفلسفة العمل الإنساني ليس وليد اللحظة، بل هو تراكم من الخبرات والتجارب عبر السنين، ودروس مستفادة من الميدان.

ويبقى الأمل هو عنوان الحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى