مقالات

مصر والقضية الفلسطينية: شرف في زمن العبث السياسي

بقلم أ.محمد رزق

ولأن مصر تتعامل بشرف في زمنٍ عَزَّ فيه الشرف، وفي عالمٍ اختلت فيه القيم والمعايير، وضاعت فيه القوانين، واختلط فيه الحابل بالنابل، نجد مثل هذه المظاهرات التي لا توصف إلا بأنها مرحلة متأخرة جدًا من العبث السياسي، ذلك العبث الذي ترك الجاني يذبح ويسلخ ويقطّع في ضحيّته، وذهب ليتظاهر أمام أكبر دولة داعمة ومدافعة عن الحق الفلسطيني.

ربما تكون هذه الدعوة التي أطلقها المدعو نضال أبو شيخة، رئيس ما يُسمى بـ”اتحاد أئمة المساجد في الداخل الفلسطيني”، لتنظيم مظاهرة أمام السفارة المصرية في تل أبيب، للتنديد بما زعم أنه إغلاق مصر لمعبر رفح ومحاصرتها لقطاع غزة، من المضحكات المبكيات. دعوة لا تصلح إلا أن تكون عنوانًا لعرض مسرحي هزيل، لكنها في الوقت ذاته كاشفة عمّن يخطط وينفذ المؤامرة على مصر ودورها التاريخي تجاه القضية الفلسطينية.

مع هذه الهجمة غير المبررة، تأتي أيضًا تصريحات شاذة لخليل الحية، رئيس حركة حماس في غزة، بشأن الدور المصري في الحرب على غزة، إذ وجّه، فيما يشبه الاتهام، الاتهام إلى مصر، مدّعيًا أنها هي من تحاصر القطاع. ودعا إلى الزحف نحو فلسطين برًّا وبحرًا وجوًّا، وحصار السفارات، مخاطبًا المصريين بقوله: “يا أهل مصر وقادتها، كيف تسمحون بموت إخوانكم على حدودكم؟”.

وقد أعقبت تصريحاتِ الحية تصريحاتٌ أخرى صدرت عن حركة حماس داخل قطاع غزة، وذلك عقب استئناف إدخال المساعدات منذ عدة أيام عبر معبر كرم أبو سالم، والتي تمثّلت في قوافل نظمها الهلال الأحمر المصري تحت عنوان “زاد العزة لغزة”.

وجاءت تصريحات حماس لتقلّل من أهمية تلك القوافل، مدّعية أن البيانات المصرية لا تعكس الواقع، وأنها مجرد تجميل للصورة، وأن المساعدات لا وجود لها على أرض الواقع.

وقد تناست حماس حجم التضحيات التي قدمتها مصر وما زالت، دعمًا ومساندةً وحرصًا على وقف الحرب وإعادة إعمار القطاع دون تهجير أهالي غزة، كما أرادت إسرائيل، وساعدتها في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، والرئيس ترامب نفسه، الذي لطالما أعلن رغبته في تهجير الفلسطينيين خارج القطاع.

تناست حماس أن أكثر من 80% من حجم المساعدات المقدَّمة إلى غزة تأتي من مصر وشعبها، الذي يقتطع من قوته اليومي لإطعام أهل غزة.

ومن يتأمل هذه التصريحات والتحركات على الأرض، يدرك جيدًا أن هناك حملة مستعرة، هدفها الأوحد هو النيل من سمعة مصر وتشويه دورها الحيوي تجاه ما يحدث في غزة.

لكن لماذا تعالت الأصوات في هذا التوقيت؟ هذا هو لبُّ القصيد.

لقد أدركت حماس أن لا مستقبل لها في حكم القطاع، وأنها مطالبة بتسليم سلاحها والرحيل، وأن حل الدولتين هو الأقرب للتنفيذ الآن؛ هذا الحل الذي نادت به مصر منذ عقود، وتجدد بعد “طوفان الأقصى” والحرب الإبادية التي اندلعت على إثره قبل نحو ثلاث سنوات. فقد حشدت مصر جهودها وتحركت على مختلف الأصعدة حتى أيقن المجتمع الدولي أن هذا الحل هو السبيل الوحيد لإحلال السلام في المنطقة.

وجاء إعلان فرنسا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل، تبعتها المملكة المتحدة، في تحول لافت في السياسة البريطانية، وهي التي زرعت هذا الكيان في المنطقة عبر وعد بلفور عام 1917. كل هذا الزخم كانت مصر وراءه، تتحرك وتدعم وتقنع العالم بحق الفلسطينيين في العيش داخل دولتهم المستقلة على حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.

بعد كل هذا، بات طبيعيًّا أن تنتفض حماس، ومعها دراويشها في عدد من دول المنطقة والعالم، من المتأسلمين والكارهين والمغيبين، لتشويه سمعة مصر وقلب حقيقة موقفها الرافض لكل المخططات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، عبر قصف وحشي وهمجي  اسرائيلى ليل نهار، استمر لما يقرب من ثلاث سنوات، وتجويع وإذلال متعمّدَين، لإجبار من نجا من الموت تحت القصف على الفرار إلى مصر.

هذه الحملات  التي انطلقت عبر الأبواق الإعلامية المأجورة في الخارج بدأت تأخذ منحًى جديدًا، يتمثل في الفعل على الأرض من خلال الحشد أمام السفارات المصرية في عدد من الدول. تحمل تلك الحملات شعارات زائفة وتردد أكاذيب تُحمّل مصر مسؤولية المأساة الإنسانية في قطاع غزة، متجاهلة الجاني الحقيقي الذي تسبب في هذه الكارثة غير المسبوقة في تاريخ الإنسانية.

تتغافل هذه الحملات عن القنابل والصواريخ التي لم تهدأ يومًا منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى الآن، وتغض الطرف عن أطول حرب خاضتها إسرائيل في تاريخها، حرب إبادة وقتل بالقنابل تارة وبالتجويع تارة أخرى. تناست هذه الخلايا النائمة، والعميلة للصهيونية العالمية، حجم التضحيات التي قدمتها مصر على مدار تاريخها، منذ بداية هذا الصراع العربي–الإسرائيلي عام 1948، وذهبت إلى قلب الحقائق وتزويرها.

ومع ذلك مصر لا تنتظر الشكر من أحد، لكنها لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تزييف الحقائق وبث الفتن، واستغلال عدم الوعي أو الجهل والتغييب أحيانًا لبعض الفئات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، التي بذلت مصر من أجلها الغالي والنفيس كي تحافظ على وجودها على ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية، وفقًا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، رغم حجم المخططات الرامية إلى نسف القضية وتصفيتها وتهجير أهلها وابتلاع ما تبقى من ترابها.

مصر، التي وقفت في وجه أقوى دولة في العالم، وقالت لرئيسها المتهور “ترامب”: لا للتهجير، لن تركع أمام هؤلاء المتآمرين والكارهين والمُغيّبين.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى