المركز الاعلامىمقالات

القيم: الروح المحركة للتنمية الحقيقية

بقلم د. محمد ممدوح

لا يمكن اختزال عملية التنمية في مجرد مؤشرات اقتصادية مجردة أو أرقام تضخم الناتج المحلي الإجمالي فالتنمية الحقيقية هي عملية شمولية ومعقدة تهدف في جوهرها إلى تحسين جودة الحياة للإنسان في جميع المجالات.

وفي هذا الإطار، تبرز القيم بوصفها العمود الفقري والناظم الأخلاقي الذي يوجه مسار هذه العملية، ويضمن أن ثمارها تكون عادلة ومستدامة ومحققة للسعادة والرفاهية فبدونها، تتحول التنمية إلى نمو مشوه، قاصرٍ ومؤذٍ.

لماذا القيم هي جوهر التنمية وجودة الحياة؟

1. التوجيه الأخلاقي للوسائل والغايات: تحدد القيم الإطار الأخلاقي للوسائل المستخدمة في تحقيق التنمية. فالتنمية التي تتحقق عبر الاستغلال أو التلوث أو الفساد هي تنمية فاسدة في جوهرها، حتى لو حققت نمواً اقتصادياً سريعاً. القيم تضمن أن الغايات النبيلة لا تبرر الوسائل السيئة.

2. ضمان العدالة والشمولية: بدون قيم مثل العدل والمساواة، يمكن أن تتركز ثمار التنمية في أيدي قلة محدودة، مما يزيد الفجوات الاجتماعية ويولد الاستقطاب والصراع. القيم تضمن توزيعاً عادلاً للفرص والموارد والمنافع.

3. بناء رأس المال الاجتماعي: الثقة والتعاون والتسامح هي قيم تشكل “رأس المال الاجتماعي” لأي مجتمع. هذا الرأس المال هو الذي يسهل التعاملات الاقتصادية، ويقلل تكاليف المعاملات، ويشجع على العمل الجماعي لتحقيق الصالح العام، مما يسرع وتيرة التنمية ويجعلها أكثر متانة.

4. تحقيق جودة الحياة المعنوية: جودة الحياة لا تقاس فقط بالدخل والممتلكات المادية، ولكن أيضاً بالأمان، والطمأنينة، والرضا، والشعور بالانتماء والكرامة هذه الجوانب المعنوية لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمع تتجسد فيه قيم الكرامة الإنسانية والتضامن والاحترام.

العلاقة بين القيم والتنمية المستدامة :

التنمية المستدامة هي التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة وهنا تكمن العلاقة العضوية مع القيم:

· قيمة المسؤولية: تمتد مسؤوليتنا لتشمل الأجيال القادمة، مما يفرض علينا استغلال الموارد بحكمة وعدم استنزافها.

· قيمة الاعتدال وعدم الإسراف: تحثنا على أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، تحافظ على البيئة وتقلل من الهدر.

· قيمة العدالة بين الأجيال: تضمن أن لا نستمتع نحن بثمار تنمية على حساب تلويث بيئة أبنائنا أو تركهم لدين لا يستطيعون سداده.

وعليه، فإن خلو التنمية من القيم يؤدي إلى فسادها، فيتحول النمو الاقتصادي إلى غاية في حد ذاته، يصاحبه تدهور بيئي، وانهيار للتماسك الاجتماعي، وانتشار للفساد، وارتفاع في معدلات الجريمة والقلق. إنها تنمية “فاقدة للروح”، قد تبنى ناطحات سحاب ولكنها تهدم كرامة الإنسان، وبالتالي تفشل في تحقيق أهدافها العليا المتمثلة في سعادة الإنسان واستقرار المجتمع ولكن ماهي القيم التي تدور حولها عملية التنمية :

1. العدالة:
· التوضيح: توزيع عادل للموارد والفرص والخدمات (التعليم، الصحة، الوظائف) بين جميع أفراد المجتمع دون تمييز.
· مثال: تطبيق سياسات ضريبية تصاعدية (يدفع الأغنياء نسبة أعلى) لتمويل برامج دعم الفقراء وتحسين الخدمات العامة مثل التعليم المجاني ذو الجودة العالية، مما يخلق تكافؤ فرص حقيقي.

2. النزاهة ومكافحة الفساد:
· التوضيح: الشفافية في إدارة المال العام والمساءلة والمحاسبة.
· مثال: إنشاء هيئات رقابية مستقلة قوية، واستخدام منصات إلكترونية لنشر موازنات الحكومة ومشاريعها بشكل علني، مما يحد من هدر المال العام ويضمن توجيهه نحو مشاريع التنمية الفعلية.

3. المسؤولية:
· ونقصد تحمل الفرد والمؤسسة لتبعات أفعاله، والتفكير في تأثيرها على المجتمع والبيئة على المدى الطويل.
· مثال: قيام مصنع بمعالجة مخلفاته الصناعية والتخلص منها بطرق آمنة بيئياً حتى لو كانت مكلفة، بدلاً من إلقائها في الأنهار لتوفير التكاليف على حساب صحة المجتمع.

4. التعاون والتضامن:
· ونقصد العمل الجماعي لتحقيق أهداف مشتركة ومساعدة الفئات الأضعف في المجتمع.
· مثال: قيام مجتمع محلي بحملة تبرعات لمساعدة أسر فقدت معيلها في بدء مشروع صغير، أو تعاون مجموعة من الشباب في تطوير حديقة عامة في حيهم، مما يعزز الشعور بالانتماء ويحسن جودة الحياة للجميع.

5. الإبداع والابتكار:
· ونقصد تشجيع التفكير خارج الصندوق لإيجاد حلول غير تقليدية للتحديات التنموية.
· مثال: استخدام تطبيقات الهاتف المحمول في تقديم خدمات الزراعة الحديثة للمزارعين في القرى النائية، أو ابتكار تقنيات رخيصة لتحلية المياه في المناطق التي تعاني من ندرتها.

6. الاحترام (للكرامة الإنسانية والبيئة):
· ونقصد الاعتراف بالكرامة المتأصلة لكل إنسان واحترام حقوقه، وكذلك احترام النظام البيئي والموارد الطبيعية.
· مثال: توفير ظروف عمل لائقة وآمنة للعمال مع أجور عادلة (كرامة الإنسان)، وتبني مشاريع سياحية بيئية (Eco-Tourism) تحافظ على الطبيعة ولا تلوثها (احترام البيئة).

وختاما: ليست القيم ترفاً فكرياً أو شعارات جوفاء، بل هي وقود التنمية المستدامة وضميرها الموجه إن استثمار أي مجتمع في ترسيخ هذه القيم في مناهجه التعليمية، وسياساته العامة، وثقافته، هو استثمار في رأس المال البشري والأخلاقي، وهو الضمانة الوحيدة لتنمية حقيقية تبني الإنسان والمكان معا، وتترك إرثاً من الازدهار والاستقرار للأجيال القادمة فبدون القيم، قد نبنى اقتصاداً، لكننا سنفقد روح المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى