المركز الاعلامىمقالات

السلام والاستقرار النفسي: مطلب لجودة حياة الأفراد في زمن الاضطراب

بقلم د. محمد ممدوح

في خضم حياتنا المعاصرة المتسارعة، أصبح السلام النفسي أشبه بحلم بعيد المنال للكثيرين، تحول من حالة طبيعية ينبغي أن يعيشها الإنسان إلى أزمة وجودية تهدد كيان المجتمعات فالاضطراب النفسي لم يعد مجرد حالة فردية عابرة، بل تحول إلى ظاهرة مجتمعية تنعكس آثارها السلبية على جميع مناحي الحياة.

يؤثر غياب السلام النفسي بشكل بالغ الخطورة على الأسرة التي تعدّ اللبنة الأساسية في بناء المجتمع. فعندما يعاني الأب أو الأم من اضطرابات نفسية، تنتقل هذه المعاناة حتماً إلى الأبناء، فيتحول البيت من ملاذ آمن إلى ساحة صراع دائمة فتبدأ المشاكل بالتصاعد من خلال توتر العلاقة بين الزوجين، مما يؤدي إلى تفكك الأسرة وانهيارها، وهذا بدوره يساهم في ارتفاع معدلات الطلاق وهو ما نعاني منه في الآونة الأخيرة فالنفس المضطربة لا تستطيع بناء علاقة صحية، والعقل المرهق عاجز عن إدارة الخلافات الزوجية بطريقة بناءة.

أما بالنسبة للشباب، فإن تأثير غياب السلام النفسي يكون أكثر حدة، فهم في مرحلة تكوين الهوية والشخصية، مما يجعلهم أكثر عرضة للاضطرابات النفسية التي قد تلازمهم طوال حياتهم كثير من الشباب اليوم يعيشون حالة من الضياع والقلق الوجودي، يفقدون فيها الشعور بالاتجاه والأهداف الواضحه، هذا الوضع ينعكس سلباً على تحصيلهم العلمي ومستقبلهم المهني، كما يدفع بعضهم نحو السلوكيات الخطرة بحثا عن مهرب من واقعهم المؤلم.

وعلى المستوى المجتمعي، تؤدي أزمة السلام النفسي إلى تفكك النسيج الاجتماعي بشكل تدريجي تتحول معه المجتمعات من كيانات متعاونة متضامنة إلى مجموعات من الأفراد المنعزلين المنشغلين بهمومهم الخاصة و تتراجع الثقة بين الناس، وتتضاءل روح التعاون والمشاركة المجتمعية، وتنتشر الأنانية كرد فعل طبيعي على الشعور بعدم الأمان النفسي.

كما تظهر آثار هذه الأزمة جلية في بيئات العمل، حيث تنخفض الإنتاجية وتزيد الصراعات بين الموظفين، مما يؤثر سلبًا على الاقتصاد القومي بشكل عام.

فمن الأهمية بمكان أن ندرك أن أسباب هذه الأزمة متعددة ومتشابكة، منها ما هو اقتصادي مرتبط بصعوبة تلبية الاحتياجات الأساسية في ظل الأزمات المعاشة، ومنها ما هو تكنولوجي ناتج عن الإفراط في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي تزيد من عزلة الأفراد رغم ادعائها تحقيق التواصل كما تساهم الضغوط المهنية وعدم الاستقرار الوظيفي في تفاقم المشكلة، إضافة إلى التغيرات الاجتماعية السريعة التي تضع الأفراد في حيرة بين القيم التقليدية والحديثة.

ولمواجهة هذه الأزمة، لا بد من تبني استراتيجيات متكاملة على عدة مستويات على المستوى الفردي، يمكن تعزيز مهارات إدارة الضغوط والتوتر من خلال ممارسة التأمل والرياضة وتبني أنماط حياة صحية. وعلى المستوى الأسري، يجب العمل على بناء علاقات أسرية قائمة على الحوار المفتوح والتقبل غير المشروط أما على المستوى المجتمعي، فيجب تطوير برامج الدعم النفسي في المدارس والجامعات وأماكن العمل.

إن استعادة السلام النفسي للأفراد والمجتمعات ليست رفاهية، بل ضرورة حتمية لضمان استمرار الحياة بشكل صحي ومنتج وبالتالي تحقيق جودة الحياة لأفراد المجتمع، فالاستثمار في الصحة النفسية هو استثمار في رأس المال البشري، وهو الأساس الذي تبنى عليه المجتمعات القوية القادرة على مواجهة التحديات وتحقيق التقدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى