
في كل إنسان قارة خفيّة، لا يرسم خرائطها العقل بل تحفظها الذاكرة الأولى.. تلك اللحظة التي كان فيها الكون أصفى من أن يُفسد، وأنقى من أن يُلوث. ومن بين تضاريس هذه القارة تولد الطفولة، ليس زمنًا يمر، بل لحظة أبدية تعيد للعالم صورته الأساسية. في دهاليز الضحكات الأولى وملامح البراءة، يُكتب وعد الإنسان بأن يكون حيًا بلا خوف، وحتى عندما تتهدد هذه المملكة بالخيانة، يظل أثرها محفورًا في كل نبضة من وجودنا. بين جذور منتهَكة وأوراق ميتة، يكتشف العالم أنّه لم يخن طفلاً واحدًا فحسب، بل خان نفسه حين خان أطفاله.
ليست المأساة في أن يُغتصب جسد صغير فحسب، بل في أن يُغتصب معه معنى الأمان ذاته؛ فحين يُساق الطفل، الذي كان يفترض أن يتلمّس طريقه بين دفء الأسرة ورعاية المدرسة، إلى متاهة الكوابيس والريبة، يُنتزع من قلب الوجود جوهر الثقة، وتُكسَر المرآة التي كانت تعكس براءة العالم في عينيه. إنها جريمة لا تُقاس بجرحٍ يندمل أو لا يندمل، بل باقتلاع جذرٍ من إنسانيتنا الجماعية، بحيث يغدو الطفل شاهداً على سقوط ضمير أمة بأكملها.
وفي غزة، حيث السماء لا تمطر إلا نارًا، وحيث الأرض تبتلع البيوت والمدارس، لا يكفي أن يُسلب الأطفال من مأوى وأمان، بل يرزح بعضهم تحت وطأة اعتداءات جسدية تضاعف الجرح وتستقبلهم ظلال الهاوية السحيقة. كأن الحرب لم تكن كافية لابتلاع ملامح الطفولة، فجاء الاستغلال الجنسي ليحوّل الجسد الصغير إلى ساحة يلتقي فيها الرصاص بالعار، والدم بالخذلان. هناك، الطفولة لا تُقاس بعدد الدمى المفقودة، بل بعدد الأرواح التي صارت تنام تحت جدار الخوف، تبحث عن حلم لا يجيء.
لكن الوجه المظلم ليس حكرًا على ساحات النزاع. فالأرقام الأممية تكشف أن ما يقارب 120 مليون طفل حول العالم تعرّضوا لشكل من أشكال العنف الجنسي قبل بلوغهم الثامنة عشرة، وفقًا لأحدث البيانات المتاحة من اليونيسف (تقرير 2023).
لقد نصّت اتفاقية حقوق الطفل (1989)، التي صادقت عليها معظم الدول العربية، بوضوح لا لبس فيه على “حماية الطفل من جميع أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية، بما في ذلك الاستغلال الجنسي” (المادة 19). لكن ما جدوى النصوص إذا بقيت محجوزة في الأدراج؟ ما قيمة المواثيق إذا كان صمت المجتمع أبلغ من صراخ الضحايا؟ إنّ الطفل الذي يُغتصب اليوم لا ينكسر وحده؛ بل ينكسر معه وعد الإنسانية لنفسها، ويُفضح تواطؤ العالم حين يتحوّل العدل إلى شعار يتيم على جدارٍ مهجور.
السؤال الذي يضربنا في الصميم إذن: كيف تحوّل شبابنا إلى ذئاب بشرية؟ كيف صار الجسد الطفولي ساحة للتفريغ المرضي بدل أن يكون مرآة للنقاء؟ ليست المسألة مسألة أفراد، بل مسألة منظومة متآكلة: انهيار في التربية، تراجع في القيم، انفلات من الضوابط، وانتشار ثقافة تلقي باللوم على الضحية بدل أن تحاصر الجريمة في مهدها.
لسنا بحاجة إلى يوم عالمي للطفل كي نفهم أن إنصاف الطفولة هو إنصاف للإنسانية بأسرها. ولسنا بحاجة إلى فعاليات ومهرجانات خطابية أو شعارات رنانة إن لم تتحول إلى فعل قانوني وأخلاقي يتجذر في المحاكم كما في الضمائر. إن مستقبلنا العربي لن يُقاس بما نشيّده من أبراج شاهقة أو بما نقيمه من احتفالات صاخبة، بل بقدرتنا على حماية أصغر فرد بيننا من أبشع الخيانات.
الطفولة ليست ظلًّا يذوب في صمت الأيام، بل هي أصل الوجود ومِعيار إنسانيته. إنقاذها ليس ترفًا أخلاقيًا، بل شرطًا لبقاء المعنى ذاته في حياتنا. فكل دمعة تُهدر هي انهيار في جدار المستقبل، وكل صرخة مكتومة هي فضيحة تُعرّي الضمير الجمعي.
“وبغض النظر عن مصير الأطفال غدًا، فأنا لست قلقة أبدًا… فما دام الأفق يحمل فجرًا جديدًا، فإن السؤال لن يكون: هل تعود الطفولة؟ بل: هل يبقى لنا مستقبل نستحقه، أم نصحو على خرابٍ صنعناه بأيدينا حين خذلنا أضعف من فينا؟”



