الدولة والفئات الأولى بالرعاية ..
من أسبوع تقريباً أصدرت منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة ” الفاو ” تقريراً صادماً عن الأمن الغذائي وسوء التغذية في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا. وبصرف النظر عن الأرقام الصادمة التي عرضها التقرير فيما يتعلق بالفئات التي تعاني من غياب كامل للأمن الغذائي؛ فقد لفت انتباهي تقسيم التقرير للشرائح التي تعاني من فقدان الأمن الغذائي .. الأمر الذي دفعني إلى السؤال عن ماهية الفئات الأولى بالرعاية والتي على أساسها تتحدد سياسة الدولة في تقديم الدعم سواء كان هذا الدعم نقدياً أو دعم سلعي.؟
وفى الحقيقة يُعد مفهوم الفئات الأولى بالرعاية مفهوماً حديث نسبياً.. استخدمته مصر في 2015 تزامناً مع تنفيذ الدولة لبرنامج الدعم النقدي المشروط ” تكافل وكرامة ” والذى بناءً عليه تم تحديد الفئات الأولى بالرعاية، باعتبارها الفئات العاجزة عن اشباع احتياجاتها الأساسية أو تلك التي لا تملك الحد الأدنى من الأدوات والقدرات التي تسمح لها بالعيش الكريم.. وقبل 2015 كانت الدولة تستخدم مفهوم ” دعم المستحقين ” والذى لاقى انتشاراً واسعاً في معظم الأدبيات والسياسات المعنية بالدعم المادي والسلعي. ونظراً لعدم وجود مقاييس دقيقة لتحديد الفئات المستحقة للدعم ..فقد وجدت الحكومات استحساناً في تبني مفهوم الفئات الأولى بالرعاية كبديل لمفهوم دعم المستحقين.
وهذه الشريحة من المواطنين التي تستهدفها الحكومة بتقديم الدعم هي ذاتها التي كانت تستهدفها الحكومات المصرية المتعاقبة من الخمسينيات من القرن الماضي وحتى تاريخه .. وحيث لأن التقارير الإحصائية التي يصدرها الجهاز المركزي للمحاسبات تُشيرُ إلى أن حجم هذه الشريحة في تزايد مستمر؛ فقد يُؤشر ذلك على أن السياسات التي تتبعها الحكومة تسير في الاتجاه المعاكس، وأنها لم تنجح في تجفيف منابع الفقر بل تزيد من معدلاته ..! وكذلك يُؤشرُ على أن الحكومات المتعاقبة في مصر لم تقم بأي قياسات لتقييم مدى نجاح سياستها في الحد من الفقر .. وفي أحسن الحالات فإنها تستعين بمقيميين من داخلها وليس مقيميين من الخارج، يتسمون بالحيادية والموضوعية في تقييم سياستها في الحد ممن الفقر؛ مما يجعل نتائج التقييم مطابقة لرغبات ومصالح صناع القرار.!
وحتى نكون أكثر موضوعية فأقصى ما حققته هذه السياسات هي أنها خففت من تداعيات الفقر على الفقراء، لكنها لم تحد من الإحساس به، بل عمقت من جذور الفقر بالشكل الذي جعل من الصعوبة بمكان استئصاله..!
ورغم أهمية تحديد الفئات الأولى بالرعاية إلا انه لا يوجد ثمة اتفاق على المفهوم عالمياً. وغالباً ما تُحدد كل حكومة المفهوم في ضوء فلسفتها الاقتصادية وحجم الموارد المتاحة لديها للحد من تداعيات الفقر .. فمثلاً منظمة الفاو قسمت الفقراء إلى ثلاثة شرائح أو فئات. أولها الشريحة التي تعاني من الجوع أو من سوء التغذية ويقصد بهم الأشخاص الذين لا يحصلون من الغذاء المتوفر لهم على السعرات الحرارية الكافية لنشاطه واحتياجاته الجسدية على مدى اليوم. وأشار التقرير إلى أن هذه الشريحة يصل حجمها إلى 8.5 % من سكان مصر أي حوالي 9.4 مليون مواطن يعاني من سوء التغذية.
أما الفئةُ الثانية فقد حصرها التقرير في الشريحة التي لديها حد الكفاف، وهم الذين يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي. وأشار التقرير إلى أن 11.5 مليون مواطن في مصر يعانون من الانعدام الحاد للأمن الغذائي . أما الفئة الثالثة فحصرتها الفاو في الشريحة التي تعاني من الانعدام المعتدل للأمن الغذائي، والتي قد يتحمل أصحابها غياب حد الكفاف بالأيام, ووصل عددهم حسب التقرير التي أصدرته الفاو مؤخراً حوالي 33 مليون نسمة.
وبناء على هذا التقسيم فإن منظمة الفاو ترى أن 53 مليون من المصرين يستحقون الدعم الغذائي في مصر .. وأن هذه الشريحة في تزايد مستمر، في ظل ارتفاع معدلات التضخم وغلاء الأسعار التي تتزايد بشكل جنوني .. وإذا كان الجهاز المركز للتعبئة العامة والإحصاء قد أعلن في أحدث تقاريره أن نسبة الفقراء في مصر تجاوزت 32.4%. فهذا يعنى أن حوالي 20 مليون مواطن مصري مهددون بالفقر .. الأمر الذي يجعلنا نتسأل عن أي الفئتين هنا أولى بالرعاية في ظل ارتفاع معدلات التضخم ..؟ علماً بأن اعتبار الفئة الأُولى العاجزة هي الأولى برعاية الدولة، لا يضمن حماية المهددين بالفقر من الوقوع في شراكه ..!
ولعل الفئة الأولى هي من كانت محط اهتمام الدولة منذ بداية الخمسينيات من القرن السابق .. فقبل ثورة يوليو أصدرت حكومة الوفد في عهد الملك فاروق قانوناً للدعم النقدي معني بتقديم معاشات اجتماعية للفئات غير القادرة على اشباع احتياجاتها الأساسية، وتم تمويله من الموازنة العامة للدولة بكلفة 0.5% من الدخل القومي. واستمر الدعم النقدي لهذه الفئة في عهد عبد الناصر مع تركيز أوسع على دعم الغذاء .. وفي عهد السادات تم تعديل نظام الدعم النقدي (المعاشات الاجتماعية) مرتين، الأولى سنة 1975 بإدخال الأرامل والمطلقات على الفئات المستحقة، والثانية كانت بعد انتفاضة 1977 حيث حاول السادات امتصاص غضب المواطنين؛ فوحد قيمة المعاشات بين القاهرة والمحافظات وعمل على رفع قيمته.
علماً بأن ارتفاع قيمة المعاش أو التوسع في السلع المدعومة معناه أن هذه الشريحة من الفقراء بدأت في الاتساع، كمان أن ارتفاع معدل التضخم والذي صاحبه زيادة في الأسعار؛ عادة ما يتطلب زيادة كبيرة في قيمة المعاش .
وفي عهد مبارك استمر صرف المعاشات الاجتماعية أو الدعم النقدي غير المشروط بنسب إنفاق إجمالية لا تتعدى 0.1 % من إجمالي النفقات العامة. رغم أن معدلات الفقر كانت في تزايد كبير حتى وصلت حوالي 16 % في نهاية حكم مبارك.!
وهنا نستطيع القول أن التركيز على تقديم الدعم النقدي للفئات التي لا تستطيع فقط تلبية احتياجاتها اليومية دون الالتفات إلى الفئات المهددة بالفقر لا ينهى الفقر بل يكرس وجوده ويعزز الإحساس به. علماً بأن الإحساس بالفقر أخطر على الاستقرار الاجتماعي والسياسي من الفقر نفسه.
وبالرجوع إلى التقرير الذي أصدرته منظمة ” الفاو” فإن الحكومة الحالية تقدم الدعم للفئات التي تقع تحت خط الفقر فقط، والتي تعاني من انعدام حاد في الأمن الغذائي والتي حددها التقرير في 20 مليون مواطن .. وهو في الغالب اجمالي عدد المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة .. والذى يكلف الدولة تقريباً 41 مليار جنيه سنوياً، ويستفيد منه حوالي4.7 مليون أسرة، بإجمالي 20 مليون مواطن .. والخلاصة في ذلك أن الحكومات المتعاقبة في مصر لا زالت تعتقد أن الفقر في مصر عبارة عن عاهة مستديمة تلازم أصحابها حتى الموت ..
وفي حين يشير تقرير الدخل والانفاق الذى يصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء كل عامين أن معدل الفقر في مصر وصل إلى حوالي 32.4 % .. يعنى حوالي 35 مليون مواطن .. يحصل فقط منهم على دعم نقدي 20مليون فقط، ويظل هناك 15 مليون مواطن يستحقون الدعن النقدي ولكن لا يحصلون عليه..! فإن منظمة ” الفاو” ترى أن 53 مليون مواطن يستحقون الدعم. وفي نفس التوقيت تشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أن 60 % من المواطنين في مصر يستحقون الدعم النقدي.. مما يؤكد على أن معايير تقييم حالة الفقر في مصر ليست واحدة .. وأخطر ما في الموضوع أن معايير التقييم هذه عادة ما يشوبها حس سياسي؛ مما يجعل من الصعوبة بمكان تحديد الفئة المستحقة للدعم وكذلك تحديد حجم الدعم الذي يحتاجونه ..!
وربما يروق هذا التقسيم للفئات الأولى بالرعاية لكثير من الحكومات في ظل محدودية الموارد المتاحة لكل حكومة، وفى ضوء قدرتها المالية على الدعم .. إلا أنني أرى أن كل هذه التقسيمات لا تجفف منابع الفقر بقدر ما تخفف من تداعياته.
ويتبقى تقسيم أخر للفئات الأولى بالرعاية من الأهمية أن يؤخذ في الإعتبار. حيث يتم تقسيم المجتمع اقتصادياً إلى ثلاثة فئات. الفئة الأولى وهي الفئة القادرة على الادخار والفئة الثانية هي الفئة التي تشبع احتياجاتها بالكاد دون قدرة على الادخار. أما الفئة الثالثة فهي الفئة التي لا تستطيع اشباع احتياجاتها الأساسية … وفى ظل ارتفاع معدلات التضخم وحين يكون معدل الانفاق أعلى من مستوى الدخل؛ تتقلص قدرة المواطنين على الإدخار .. وتتأكل الفئة الثانية لصالح الفئة الثالثة .. وهنا نتسأل عن أي الفئات الثلاثة هذه أولى بالرعاية ..؟
وأتصور أن الحديث عن التنمية المستدامة يتطلب اعتبار الفئة القادرة على الإدخار هي الفئة التي يجب أن تكون هي الفئة الأولى بالرعاية .. فلو افترضنا مثلاً أن القادرين على الادخار 10 % فقط فإن هذا يعنى أن من لهم مستقبل لا تتجاوز نسبتهم 10%، وهذا أمر في غاية الصعوبة؛ إذ يهدد مستقبل المجتمع ويضع مستقبل أبناءه على المحك. ومن ثم فيجب على الحكومات التي تحلم بالنهضة والخروج من براثن الفقر أن تهتم برفع قدرة المواطنين على الادخار بدلاً من أن تخلق لهم ظروفاً تجبرهم على استنزاف مدخراتهم لإشباع احتياجاتهم اليومية.. علماً بأن اتساع مساحة الفئة القادرة على الادخار يكون عادة يتسبب في تحسين أبناء الطبقة الوسطى الذين هم في الفئة الثانية؛ مما ينعكس إيجابيا على تحسين الأحوال المعيشية للفقراء ويعمل على تقليص أعدادهم.
حيث أثبتت التجارب العملية العالمية أن إعطاء الأولوية للفئة العاجزة عن اشباع احتياجاتها دون غيرها وعلى حساب الفئات الأولى لا يعالج مشكلة الفقر، بل يكرس وجود الفقر، ويجعل منه مرض عضال لا يمكن الشفاء منه .. وبناء عليه يجب أن تستهدف سياسات الحماية الاجتماعية أمرين أولهما زيادة قدرة المواطنين على الادخار وثانيهما زيادة قدرة الفقراء على الإنتاج وتملك الأصول دون الاعتماد على الدعم النقدي حتى وإن كان مشروطاً.