الفقر و(( نِساءُ الِننجا)) لـ د. صلاح هاشم رئيس المنتدى الإستراتيجي للسياسات العامة ودراسة التنمية
قول “ماو تسى تونغ” الذي تولى زعامة الحزب الشيوعى في الصين خلال الثلاثينيات من القرن الماضى: إنه إذا كان الرجل في الصين قد عانى على مر السنين من “ثلاث جبال” هي الفقر والجهل والمرض.. فإن الرجل بذكورته الفجة كان “جبلًا” رابعًا، حملته المرأة على ظهرها، إضافة إلى جباله الثلاث.. ولم تختلف معاناة المرأة العربية كثيرًا عن مثيلاتها في بلاد الصين!
ورغم إدراك “ماو” لمعاناة المرأة في الصين، إلا أن التاريخ يذكر أنه كان من أشد الحكام الذين استباحوا حرية المرأة وكرامتها في تاريخ الصين الحديث. ففي عام 1973 جلس “ماو” مع “هنري كيسنجر” –وزير الخارجية الأمريكي– وتناقشا في المجال الاقتصادي والعلاقة التجاريّة الثنائيّة بين البلدين. فقال “ماو” لـ”كيسنجر” إن الصين بلد فقير جدًا وليس لديها ما تقدمه في مجال التجارة إلا النساء، وعرض عليه تقديم 10 ملايين امرأة صينيّة كهدية للولايات المتحدة… والذين كانوا من النساء أصحاب المشكلات في الصين!
وعمومًا فلا تزال المرأة من أكثر الفئات تضررًا من ويلات الفقر، وأكثرهن حرمانا من التعليم والرعاية الصحية، ناهيك عن التمييز الذي مُورِس ضدها في العمل.. حتى “ثورات” الربيع التي راهنت “المرأة” عليها في استعادة حقوقها المسلوبة، لم تأت بما هو أفضل.. بل زادت “الطين بلة”؛ حيث تفاقمت بطالة النساء؛ بفعل الإضربات السياسية التي صاحبت تلك الثورات خاصة ثورة “25 يناير”!
تلك الثورة التي كان الانفلات الأمني عنوانًا لها.. وكانت السلوكيات “المنفلتة” والفوضى الأخلاقية هن صُحيباتها.. مما تسبب بشكل كبير في رفع “ستائر” الحماية عن العاملات في معظم القطاعات غير الرسمية، ولا سيما قطاع الفلاحة وبعض المناطق الصناعية.. تلك القطاعات التي شهدت انتهاكًا صارخًا لكرامة المرأة في شتى المحافظات؛ بدءا من طرق “انتقائهن” للعمل، ومرورًا بطريقة نقلهن إلى موقع العمل.. ووصولًا إلى الطريقة التي يتعامل بها المشرفون، بالإضافة إلى قيمة الأجور التي يحصلن عليها!
فهشاشة الوضع “المهني” باتت تمثل ضربًا من ضروب “العنف” المصلت ضد النساء؛ إذ أصبح عاملات النسيج والعاملات في القطاع الفلاحي يعشن وضعا من “الاستعباد” المهني؛ يدفعهن إلى “التلثم”؛ ليس لدواع “دينية” كما يفسره البعض.. وإنما لحماية أنفسهن من جحيم “التحرش” الذي يمارس ضدهن في سوق العمل!
ولُقِّبَت هؤلاء العاملات بـ”نساء النِنجا” نسبة إلى “النينجوتسو” تلك اللعبة الشعبية التي انتشرت بشدة بين الجنود “المرتزقة” والعملاء و”الجواسيس” في “اليابان” قبل عشرين قرن مضت، حتى صارت الآن “فنًا” عالميًا -له قواعده- وتُقبِل عليه “الفتيات” خاصة، رغم مخاطره العديدة؛ والتي ربما تفضي بهن إلى الموت!
ونساء الننجا أو النساء “الملثمات”.. هن في الغالب من عاملات “التراحيل”.. واللاتى أكثر من 22% منهن فتيات لا تتجاوز أعمارهن الـ”18 سنة”.. وقد يكن أرامل ومطلقات؛ يحترقن في صمت، ويخفين رؤوسهن وملامح وجوههن بـ “لثام” صُنع من “أثواب” تغير لونها بفعل حرارة الشمس، وكثرة الاستعمال؛ حتى لا يتعرف عليهن أحد، ويتحولن إلى عاملات “النينجا” في محاولة بريئة للحصول على فرصة “عمل” في ضيعة “فلاحية”؛ للخروج من عتمات البطالة أو الهروب من “الفقر” المدقع، و”الهشاشة” الاجتماعية، والأوضاع المعيشية الصعبة في قرى ريفية “مهمشة”.
ويلجئن إلى استعمال اللثام، على شاكلة “مقاتلات النينجا”؛ من أجل إخفاء هويتهن؛ خوفا من الوصم والاستهجان الاجتماعيين، ولتجنب التعرض للتحرش الجنسي من قبل الرجال! فأكثر أنماط الاستعباد “مهانة” ليست الحالات التي تعطى فيها المرأة الجنس مقابل “المال”.. ولكنها الحالات التي تعطى فيها المرأة الجنس مقابل”العمل”!
إن اختيار هؤلاء النسوة للعمل في المناطق الفلاحية والصناعية.. يقوم على معايير وممارسات، تشبه إلى حدٍ بعيد تلك التي كانت سائدة في سوق النخاسة في القرون الوسطى، أضف إلى ذلك تعرضهن للمهانة والاستغلال والتحرش الجنسي.. فعادة لا يسمح بصعود “شاحنات” نقل العاملات إلا لمن تمتاز بـ”بنية” جسمانية قوية.. مما يدفع العاملات دائما إلى التفنن في إظهار أنفسهن في صورة جادة وقوية. رغم هشاشة أو نَحَالة أجسادهن، ورغم وَجَع المعاناة القابع في أعماق نظراتهن البائسة!
وإذا كانت عملية انتقاء العاملات المزارعات تتم غالبا بإلقاء نظرة عامة لجسمها وهيأتها.. فإنها أحيانا لا تخلو من تجاوزات وممارسات تذكرنا بـسوق “النخاسة”. فكثيرا ما يتم “تحسيس” كتف وساعد العاملة؛ بحجة معرفة مدى قدرتها على تحمل مشقة العمل في الحقول.. وفى هذه الحالة لا يكون “السكوت” على التحرش علامة “الرضا”، فغالبا ما يكون السكوت في هذه الحالات من علامات القهر.. والبوح فيها يعنى الطرد من العمل، لبدء رحلة جديدة في البحث عن فرصة عمل بديل.. ربما لا تخلو هي الأخرى بدورها من جحيم “التحرش”!
ربما لا نحتاج جهدا كبيرا في البحث عن نساء الننجا.. فهناك أماكن عديدة ترصد بقوة عربات النقل التي تشحن فيها الفتيات الملثمات محل البهائم كطريق الفيوم أكتوبر، وأعلى الكبارى من كيلو 9 حتى كيلو11 بمحافظة الإسماعيلية، وقرية قها بالقليوبية. والنوبارية، وكفر الزيات، وطريق كفر الدوار.. وهى “مواقف” تتجمع فيها الفتيات لانتظار “مقاول” الأنفار؛ الذي يأتى لـ”ينتقى” منهن عاملات بمواصفات خاصة.. فالمعروض منهن عادة ما يكون أكثر من المطلوب!
كما أننا لسنا بحاجة لذكاءً أكبر؛ من أجل تمييز هؤلاء النسوة عن غيرهن.. فبعضهن يعمل في قطاع المعمار، والبعض الآخر يتوجهن للعمل في مزارع الصحراء لأيام متتالية بدون أية حماية.. ولا نحتاج للاحتكام إلى معايير دولية، لوصف حالة “الاستعباد” التي تعانيها العاملات في القطاع غير الرسمى في مصر.. فيكفى أن نعرف أن العاملة تتقاضي “10 قروش” على فرز كيلو الملوخية الذي يتجاوز سعره “20 جنيها”.
رغم تعرضهن للإصابة بأمراض الصدر والانزلاق الغضروفي.. وقد يعمل بعضهن موسما كاملا بـ”300 جنيه” في وقت بلغ فيه سعر كيلو اللحمة “100 جنيه”.. كما أن أوضاعهن الصحية متدهورة، وأن أكثر من 40% منهن مصاب بالأمراض الناتجة عن نقص السعرات الحرارية.. وتُعد حوادث الطرق قدرا مكتوبا عليهن!
ربما أحاول في مقالتى هذه رسم صورة أولية لظاهرة شبه “مسكوت” عنها.. من خلال تقديم تشخيص للدلالات العميقة للهشاشة والقهر واللامساواة، التي ترزح تحتها “نساء النينجا”، لنؤكد للإنسانية في زمن اللامعقول أن “التقاعد” عن العمل.. رفاهية لا يعرفها الفقراء في مصر.. ولا سيما “النساء”!