الضمان الاجتماعي والأمن القومي المصري

ولما كانت الدولة المصرية كما قلنا في مقالات سابقة تعتمد على المفهوم الواسع للأمن القومي بأضلعه الثلاث من سيادة وحماية وتنمية .. فقد أولت الدولة اهتماماً خاصة بملف الأسر محدودة الدخل والفئات الأولى بالرعاية باعتبار أن رعاية هذا الفئات أولاً حق أصيل من حقوق الإنسان، وثانياً أن احتواء هذه الفئات ورعايتهم مرتبط بشكل مباشر بالاستقرار الاجتماعي ومن ثم السياسي للدولة، وثالثاً لارتباطها بتوجه الدولة نحو تحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة، و رابعاً أن تحقيق الاستقرار الاجتماعي من الأهداف الأصيلة للأمن القومي المصري، وأن رعاية هذه الفئات وتحسين أحوالها المعيشية مطلب ضروري للأمن القومي .
ولدواعي الأمن القومي المصري وحرص الدولة على الالتزام بمبادئها الأصيلة في العدالة الاجتماعية وإيمان القيادة السياسية بأن دعم محدودي الدخل حق أصيل من حقوق الإنسان؛ فقد أصدر السيد رئيس الجمهورية القرار رقم 12 لعام 2025 الخاص بقانون الضمان الاجتماعي للمصريين كبديل للقانون رقم 137 لسنة 2010. وكان لهذا القانون صدى واسعا في كافة الأوساط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية محلياً وعالميا باعتباره يعبر عن انحياز الدولة الواضح للفقراء ومحدودي الدخل ؛ مما يؤكد مفهوم الدولة التنموية الرحيمة الذي تبنته القيادة السياسية من 2015 حين أطلقت البرنامج الكبير للحماية الاجتماعية في تاريخ مصر وهو برنامج تكافل وكرامة الذى أطلقته الحكومة المصرية بدعم كبير من البنك الدولى واستهدف الأسر محدودة الدخل وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة الذي انطبقت عليم شروط البرنامج .. وبدأ بـ مليون و 300 ألف أسرة وأصبح يغطى 4.7 مليون أسرة يعنى قرابة 18 مليون مصري يستفيد من هذا البرنامج التنموي العملاق ..
والسؤال الذي يطرحه المعنيون بأمر التضامن من عامة الناس والمعنيين بالوضع الاجتماعي والاقتصادي في مصر وحتى السياسيين، هو ما الفرق بين قانون الضمان الاجتماعي رقم 137 لسنة 2010 والقانون رقم 12 لعام 2015 .. والاجابة ببساطة تتلخص في أن القانون القديم كان يتبنى مفهوماً ضيقاً للحماية الاجتماعية من خلال تقديم دعم نقدي غير مشروط للفئات محدودة الدخل، ولم يخرج بعيداً عن المرأة المعيلة وذوي الإعاقة وكبار السن .. أما القانون الجديد للضمان الاجتماعي فقد تبنى مفهوماً تنموياً ورعائياً واسعاً للحماية الاجتماعية . حيث يعبر هذا القانون عن سياسات الدولة في تقديم الدعم النقدي المقدم للفئات الأولى بالرعاية .. ويستفيد من هذا القانون كل مصري لا يتمتع بنظام التأمين الاجتماعي، وغير قادر على إعالة نفسه وأسرته، وفي حالات العجز عن العمل والشيخوخة.
.. ويعمل على توحيد منظومة الدعم النقدي حيث يضم المستفيدين من معاش الضمان الاجتماعي إلى قوائم المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة .. حيث يبلغ عدد المستفيدين من الضمات الاجتماعي 9 مليون مواطن أضف إليهم 18 مليون مستفيد من تكافل وكرامة. أي أن عدد المستفيدين المتوقع من تطبيق القانون في مرحلته الأولى حوالي 27 مليون مواطن مصري ..
وبما أن المعاش في قانون الضمان الاجتماعي السابق كان غير مشروطاً، فإن قانون الضمان الجديد لا يقدم دعماً نقدياً غير مشروطاً إلا مع كبار السن و الأشخاص ذوى الإعاقة .. وتعتبر هذا النقطة تحديداً من النقاط الإيجابية التي تحسب للقانون الجديد .. إذ يربط القانون الدعم النقدي بالحد من الظواهر السلبية التي يعاني منها المجتمع المصري والتي تتسبب في تأكل الأصول التنموية وعدم الاستفادة من عوائد التنمية في تحسين الأحوال المعيشية للمصريين .. فلا تكافل ولا معاش مع أمية أو زواج مبكر للفتيات أو تسرب من التعليم .
وفيما يتعلق بشروط الحصول على الدعم النقدي وفقاً للقانون الجديد فقد التزم القانون بالشروط المعتمدة في برنامج تكافل وكرامة .. لكنه وسع في قوائم المستفيدين ونوعيتهم .. حيث استهدف القانون تقديم نوعين من الدعم النقدي الذي يتولى رئيس الوزراء تحديد قيمته على أن تتم مراجعته كل ثلاث سنوات لضمان توافقه مع المتغيرات الاقتصادية، بما في ذلك معدلات التضخم. ويشمل النوع الأول الدعم النقدي المشروط من خلال تقديم مساعدات نقدية مشروطة للأسر الفقيرة التي لديها أبناء معالون لا يزيد سنهم على 26 عاماً، أو حتى انتهاء دراستهم الجامعية.وأضاف القانون إلى هذه الفئات التي تضمنها برنامج تكافل ثلاث فئات جديدة هي: المرأة المنفصلة عن زوجها دون وقوع طلاق، وطلاب الجامعات من الأسر المستفيدة، وأسر من يؤدون الخدمة الوطنية.
أما النوع الثاني من الدعم النقدي غير المشروط فإنه يشمل الفئات الأشد فقراً، والتي تعاني ظروفاً استثنائية تمنعها من العمل أو تحسين مستوى معيشتها.وتشمل الفئات المستهدفة في هذا النوع من الدعم: المرضى بأمراض مزمنة غير قابلة للشفاء، والأيتام كريم النسب، والنساء غير المعيلات فوق 50 عاماً، وكبار السن والمواطنين غير القادرين على العمل، وفئات فقيرة من قدامى الفنانين، الرياضيين، والأدباء.
كما أضاف القانون رعايا الدول الأخرى المقيمين فى مصر إلى الفئات المستفيدة من الدعم النقدي والعيني، بشرط معاملة المصريين في تلك الدول بالمثل، ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية الاستثناء من شرط المعاملة بالمثل للاعتبارات التي تقدرها الدولة.
ومن أهم المزايا التي استحدثها هذا القانون هى إنشاء صندوق لتكافل وكرامة بحيث يحل محل الصندوق المركزى للضمان الاجتماعي المنشأ بقانون الضمان الاجتماعي الصادر بالقانون رقم 137 لسنة 2010، وتؤول إليه جميع أصوله وموجوداته ويكون له جميع حقوقه ويتحمل جميع التزاماته.
ويعتبر قانون الضمان جديد نقطة تحول مهمة لتكافل وكرامة من برنامج حكومي إلى حق تشريعي، وهي نقلة نوعية كبيرة تمثل إقرار من الدولة بحق المواطن المستحق وهو الأمر الذي ستكفله الدولة من خلال الموازنة العامة للدولة. على أن يتم الفحص بصورة دورية كل 3 سنوات ومن من خلال 3 مستويات. كما تضمن القانون وضع عقوبات لكل من يحاول الحصول علي دعم لا يستحقه.
وبغض النظر عن عدم قناعتنا بإلغاء الدعم العيني وأهميته القصوى للأمن القومي إلا أن هناك من يرى أن هذا القانون يعد خطوة أولى للإنتقال إلى الدعم النقدي بدلاً عن العيني، وتحويله إلى منظومة قانونية مؤسسية تُنظم تقديم المساعدات للمحتاجين بأسلوب يراعي العدالة الاجتماعية واستدامة الموارد.حيث تسعى الحكومة المصرية، بعد إقرار القانون الجديد، إلى التخلي عن الدعم العيني الذي تطبقه منذ عقود طويلة تعود إلى أربعينيات القرن الماضي، والتحول الكامل إلى نظام الدعم النقدي .
وفي هذا السياق يؤكد خبراء الاقتصاد أن هذا القانون يمثل خطوة إيجابية للقضاء على الهدر الذي صاحب منظومة الدعم العيني وتسربه إلى غير المستحقين، وتحسين مستوى معيشة الفئات المستهدفة، وتعزيز العدالة الاجتماعية.ومن ثم فإن قانون الضمان الاجتماعي الجديد يستهدف توسيع دائرة المستفيدين من الحماية الاجتماعية، ويسهم في تعزيز التمكين الاقتصادي، مما يساعد في تقليل الفجوات الاقتصادية وتمهيد الطريق نحو تحقيق التنمية المستدامة.
ويساهم هذا القانون في تحقيق استدامة الدعم النقدي من خلال التحقق السنوي من استحقاق المستفيدين، وضمان أن يكون التمويل من موازنة الدولة بدلاً من الاعتماد على قروض ومنح مؤقتة، مما يعزز الجهود الحكومية لتحقيق العدالة الاجتماعية. ويساهم في حوكمة البرامج الاجتماعية والقضاء على الفساد الذي شاب نظام الدعم العيني من خلال توفير حماية اجتماعية فعّالة، قائمة على بيانات دقيقة يتم تحديثها دورياً.
وعلى أية حال لم يكن قانون الضمان الاجتماعي الجديد هو ملخص جهود الدولة التشريعية نحو إقرار الحق في الرعاية الاجتماعية . فقد أطلقت الدولة رؤيتها للتنمية المستدامة 2030 وتبنت برنامجاً واعداً للإصلاح الاقتصادي والمالي .. ولم تنس الدولة في ظل هذه الظروف الإقليمية والدولية الساخنة الإنسان الذي هو صانع التنمية وهدفها في ذات الوقت .. فأطلقت الاستراتيجية القومية لحقوق الإنسان، والاستراتيجية القومية لمكافحة الفساد .. وأطلق السيد الرئيس عدداً من المبادرات القومية التي بدأت بـ 100 مليون صحة، ولم تنته بمبادرة حياة كريمة التي استهدفت الارتقاء بالأحوال المعيشية للإنسان في الريف المصري .. واعتبرت الدولة أن الأزمات قد تتحول إلى كوارث إذا ارتبطت بغياب الوعي .. وبناء عليه فقد جعلت الدولة الاهتمام بوعي الانسان محوراً مهماً في كل برامجها التنموية؛ مؤكدة على أن الوعي هو السند الأول لتحقيق التنمية والحفاظ على مكتسباتها. وهو الظهير الأهم في الحفاظ على الأمن القومي .