متلازمة الإصلاح والتنمية.. مخاوف الغرق وآليات النجاة (3)
بقلم: أ. د/ صلاح هاشم
استكمالاً لحديثنا السابق عن متلازمة الإصلاح والتنمية، وفى سياق الحديث عن نظرية الثلث في المئة التى تناولتها عبر المقالتين السابقتين .. إذ ينبغي هنا الحديث عن فلسفة تلك النظرية والتي تنطلق من فكرة مؤداها أن وصف المجتمع بأنه مجتمع ناهض أو منتج أو صالح لا يعنى أن ( 50 % + 1) من أبناء هذا المجتمع ينبغي أن يكون صالح .. فمثلاً عدد القوى العاملة أو المنتجة في الصين لا تتجاوز 150 مليون من إجمالي مليار وأكثر من 300 مليون نسمة .. أما فى مصر فحجم القوى العاملة لا يتجاوز 30 مليون من إجمالي 106 مليون نسمة تقريباً .. وربما يكون فرد واحد منتج يكفى لإعالة أسرة مكونة من ( 3 أفراد أو أكثر).. وهو بهذا الإنفاق يضمن بقاء الأسرة بيولوجياً لكنه لا يضمن تنميتها على النحو المطلوب إذا لم يكن الثلث على الأقل من أفراد الأسرة منتج !
نشأة المجتمع الإنساني
بالعودة إلى الحديث عن فلسفة هذه النظرية علينا فقط أن نبحث في آلية نشأة المجتمع الإنساني الذى عادة ما يبدأ بالزواج بين طرفين (ذكر وأنثى) بشرط أن يكون هذا الزواج قادر على الإنجاب .. ويعتبر الطفل هنا تعبيراً صادقاً عن نجاح عملية الزواج وتحقيق الهدف منها، وهو بقاء النوع وتعمير الأرض.
ومن هنا تتشكل الأسر، ووفقاً لعدد هذه الأسر يتكون المجتمع الإنساني وهذا ما أسفرت عنه كافة أدبيات العلوم الاجتماعية .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كم عدد الحيوانات ” المنوية ” التى تحتاجها عملية ” الإخصاب ” كي تنتج هذا الطفل .. والإجابة هنا كشفها علماء الطب الذين أوضحوا أن عالم الحيوانات المنوية مكون من حيوانات ” منوية نشطة ” وأخرى ” مشوهة ” وثالثة “ميتة ” .. ورغم أن علاقة التزاوج يتضمنها قذف ملايين الحيوانات المنوية و أن عملية الإخصاب نفسها تحتاج إلى حيوان منوى واحد فقط نشط كي تتم؛ إلا أن الدراسات العلمية أكدت أنه إذا كان لدينا فقط 30 % من الحيوانات نشط و 30 % مشوهة و 30 % ميت، فإن احتمالية إتمام عملية الإخصاب قد تكون ضعيف للغاية، وربما يوصف الذكر بأنه ” عقيم “. رغم أنه قد أنتج قرابة 30 مليون حيوان منوي نشط ..!
والحل هنا يكمن في العمل على زيادة أعداد الحيوانات المنوية النشطة لتكون ( 30% + 1 ).. وبديهياً فإن زيادة الأعداد النشطة عادة ما يكون على حساب تخفيض النسبة المشوهة، دون النظر بالطبع إلى النسبة الميتة .. وتأسيساً على ما سبق فإن المجتمع الإنساني أو الحيواني أو غيره يقوم وينشأ وينمو انطلاقاً من فكرة( الثلث + 1 ) .
ومن ثم فإن طرحنا لفكرة تقسيم المجتمع الإنساني إلى ” ثلاث فصائل ” كما ذكرتها في مقالتي السابقة تتسق تماماً مع هذه الفكرة .. حيث إن إصلاح المجتمع وتطويره وتنميته لابد وأن ينطلق من دعم الأكفاء ” من أفراد الشعب وتحويلهم من حسب ما أسميته فى المقال السابق ( إنسان النصف ) أو “الراكب المجاني” إلى مواطنين صالحين، قادرين على اتخاذ القرارات الرشيدة التي تصيب عين الحقيقة في كل أمور حياتهم، وكل ما يتعلق بتنمية المجتمع واصلاحه والحفاظ عليه .. فهذه الفئة _ الثلث المشوه أو إنسان النصف أو الراكب المجاني – هي التي تملك القدرة الكاملة على التحول إلى الإيجابية والسلبية متى امتلكت الرغبة والحافز والإرادة الكاملة للتغيير .
ومن هنا تأتي أهمية التعليم وبرامج تنمية الواعي والتحفيز الأدبي والمادي والقدرة على اكتشفا وتفجير واستثمار الطاقات الكامنة لدى شخصية الراكب المجاني اللامبالي أو المتفرج أو الذى نطلق عليه فى مصر مجازاً ” حزب الكنبة “..! بغض النظر تماماً عن الفصيل الثالث المناهض للتنمية والتغيير والإصلاح، والذى تكمن مصلحته دائماً في الإبقاء على الوضع الراهن، والذى يتجسد حرفياً في شخصية “قاسم السماوي ” في حكاية على بابا والأربعين حرامي .. والذى يبحث دائماً عن نقاط الضعف فى المجتمع وينتظر الأزمات والكوارث التى تُضعف الدولة ليحول تلك الأزمات إلى فرص للتربح الشخصي وتعميق جذور الفساد فيما تبقى من جسد الدولة وبالطبع يعتبر الثلث الذى يمثله الراكب المجاني لقمة سائغة يسهل على الفساد ابتلاعها إذا لم تجد حماية حقيقية من الثلث الصالح فى المجتمع .. فحين تكثر فى مجتمع ما أعداد الخرابات والبِرك ومقالب الزبالة، تنتشر الفئران والجرذان والعقارب والثعابين والكلاب الضالة .. !
إصلاح الثلث المشوه فى المجتمع ضرورة
من المهم هنا أن تتضمن خطط التنمية عمليات واسعة للإصلاح الاجتماعي التى تضمن بطبيعة الحال إصلاح الثلث المشوه في المجتمع وتحويله إلى طاقة إنتاجية عالية .. مع الابتعاد الكامل عن استخدام العنف والتهميش وإشعار الأشخاص المراد تحويلهم بالقهر .. فبحسب كلام بن خالدون” : الشعوب إذا شعرت بالقهر ساءت أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الغريزة ولقمة العيش ..!
وهذا لا يعنى طبعاً أن نشارك هذه الفئة غير الواعية أوهامها حتى نضمن استمالتها للثلث الصالح من أبناء الشعب كما يقول الفيلسوف “نيتشة ” .. ولا نتعمد عدم الشفافية وإخفاء الحقائق ونُكرِس فكرة أن الذين يقولون الحقيقة يرحلون مبكراً .. بل ونلتزم بالشفافية والوضوح في كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، ولا نتخذ الحذر إلا فيما يهُم قضايا ” الأمن القومي ” للمجتمعات والدول.. فالأمن القومي للبلاد هو ” الخط الأحمر ” الذى لا يجب أن يغازله أي فصيل أو يقترب من حدود فهو خط الأمان الأول لبقاء المجتمع على القيد الدولي .
فالفئات غير الواعية عادة ما تُحب وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام… فهي دائماً تصف نفسها بأنها ” غارقة ” في الأزمات والكوارث، والتي في تصوري هم من صنعوها أو على الأقل شاركوا في صناعتها ولا يملكون إرادة الحقيقية لمواجهتها أو الخروج منها .. فالغرق مثلاً هنا لا يعنى السقوط في الماء.. فلا أحد يصف السمكة بأنها غارقة ، لكن تغرق السمكة إذا تُرِكت في الهواء.. فالغرق يا صديقي يحدث حين تسقط في بيئة لا تشبهك أو في مكان لا يليق بك أو تليق به .. ! ونكمل في مقالنا القادم ..