قراءة فى زيارة الرئيس لصربيا ..دلالات التوقيت وآفاق العلاقات
فرضت الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على مختلف المستويات واقعا دوليا جديدا ومغايرا لما شهده العالم لعقود مضت، والذى سيطرت عليه الهيمنة الأمريكية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ووسط غياب كلي لأقطاب دولية أخرى تُحدث توازنا بين القوى الكبرى فى العالم، إلا أن الأمر قد تغير مع ظهور قوى جديدة منافسة كالصين وروسيا تطمح فى أداء دور محوري ومؤثر في الخارطة الدولية.
وفى ظل هذا النظام الجديد المتعدد الأقطاب، وما فرضه من تداعيات سياسية واقتصادية على الدول كافة، واتساقا مع النهج المصري متعدد الأطراف فى العلاقات الدولية، حرصت القيادة السياسية على تنويع الشراكات بما يعزز المصالح المصرية، ويدعم استقلالية القرار السياسي، ويُؤمن احتياجات الدولة من الغذاء والسلاح وغيرها لتصبح فى مأمن من الأزمة الاقتصادية العالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية وما سبقها من تداعيات جائحة كورونا، وما قد ينجم من عواقب وخيمة جراء تغير المناخ.
ولهذا شهدت السياسة الخارجية المصرية نشاطا متناميا خلال الآونة الأخيرة اتضح من خلال تحركات الدولة على الصعيدين العربي والدولي، والتى كان آخرها عَقد قمة مصرية فرنسية والمشاركة فى قمة بطرسبرج لحوار المناخ بألمانيا، وسبقها قمة جدة للأمن والتنمية التي عُقدت في المملكة العربية السعودية الشهر الماضي.
وجاءت زيارة الرئيس لصربيا فى يوليو 2022، والتى تُعد أول زيارة لرئيس مصري بعد 35 عاما، لتُثير عدة تساؤلات تتعلق بدلالات الزيارة وتوقيتها وأسبابها فضلا عن نتائجها المرجوة، وهو ما يجيب عنه هذا التقرير من خلال 4 محاور: تاريخ العلاقات الثنائية، ملامح العلاقات على الأصعدة المختلفة فى ضوء المتغيرات الدولية، دلالات الزيارة الرئاسية الأخيرة وتوقيتها، إلى جانب آفاق التعاون بين الدولتين وسبل تعزيزها.
أولا: تاريخ العلاقات المصرية الصربية
تمتد جذور العلاقات التاريخية بين مصر وصربيا إلى ما يتجاوز الـ 100 عام والتى بدأت بالعلاقات الدبلوماسية بين الخديوية المصرية ومملكة صربيا فى 20 يناير عام 1908. وشهدت حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي فترة ازدهار حقيقية بين الدولتين وذلك عقب تأسيس حركة عدم الانحياز التى تضم الدول التى كانت تسعى لحماية مصالحها فى أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى آنذاك.
وكان الرئيس جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الهندي “جواهر لال نهرو”، والرئيس اليوغوسلافي “جوزيف تيتو” يمثلون الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز والتى شارك في تأسيسها 29 دولة.. إلا أن تفكك يوغوسلافيا السابقة وما شهدته المنطقة من حروب في عقد التسعينيات من نفس القرن انعكس على مستوى العلاقات التي تم تخفيضها إلى دون مستوى السفير لمرتين في تلك الفترة.
وجاءت المرحلة الراهنة لتُعيد زخم العلاقات بين الدولتين من جديد على كافة المستويات وتدفع بقوة علاقات الصداقة والتعاون الثنائي.
ثانيا: ملامح العلاقات الثنائية
1-العلاقات السياسية والدبلوماسية
شهدت السنوات الماضية لقاءات ثنائية بين رئيسي الدولتين على هامش مؤتمرات دولية، إلى جانب زيارات رفيعة المستوى بين مسئولى الدولتين وصلت إلى مستوى رئيس الدولة، والتى كان آخرها زيارة الرئيس السيسي لبلجراد بدعوة من الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، حيث تم خلال الزيارة عقد لقاءات مكثفة بين الرئيسيين والتقى السيسى برئيس البرلمان الصربى بهدف وضع آليات لتعزيز التعاون السياسى والاقتصادى بين الجانبين ، فضلا عن مناقشة الأوضاع والقضايا الدولية والإقليمية ، فيما منح الرئيس الصربى ألكسندر فوتشيتش السيسي وسام الجمهورية الصربية ومنحه الدكتوراة الفخرية أيضا من جامعة بلجراد .
تأتي أبرز الزيارات واللقاءات كالتالي:
1- اجتماع الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الصربي توميسلاف نيكوليتش عام 2014 وعام 2015 وعام 2017 بمقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك وذلك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
2- زيارة وزير الخارجية سامح شكرى لبلجراد عام 2018 بمناسبة الاحتفال بالذكرى 110 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، حيث استقبله خلالها الرئيس الصربى ألكسندر فوتشيتش.
3-زيارة رئيس مجلس النواب السابق الدكتور علي عبد العال لصربيا فى عام 2018 ولقائه برئيسة الجمعية الوطنية الصربية (البرلمان) والتى تعتبر أول زيارة لرئيس برلمان مصرى لصربيا.
4- زيارة رئيسة الجمعية الوطنية الصربية لمصر عام 2019 للتوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون البرلمانى بين البلدين، وتفعيل عمل مجموعة الصداقة البرلمانية مع مصر بالإضافة الى تدشين مجموعة صداقة برلمانية مع صربيا.
5- زيارة رئيس مجلس النواب السابق علي عبد العال لصربيا فى عام 2019 للمشاركة فى أعمال الدورة ال 282 للجنة التنفيذية والدورة ال141 لجمعية الاتحاد البرلمانى الدولى .
6- زيارة وزير الخارجية الصربى نيكولا سيلاكوفيتش لمصر فى عام 2021 لحضور الاحتفال بذكرى مرور 60 عاما على استضافة بلجراد للاجتماع الأول لحركة عدم الانحياز.
القاهرة وبلجراد..توافق فى المواقف والرؤى السياسية
تتسم العلاقات بين الدولتين بأنها “استراتيجية” حيث يوجد توافق في الرؤى والخطط المستقبلية التى تنطلق من قراءة جيدة للتحديات والمصالح المشتركة، وتؤكد على الحل السلمي والدبلوماسي للأزمات واحترام السيادة الوطنية للدول..ويتضح ذلك من خلال التالي:
- صوتت كلا من مصر وصربيا لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين روسيا ويطالبها بإنهاء القتال في أوكرانيا وسحب قواتها.
- رفضت مصر وصربيا توقيع عقوبات على روسيا انطلاقا من رفضهما منهج توظيف العقوبات الاقتصادية خارج إطار آليات النظام الدولي المتعدد الأطراف، حيث صرح الرئيس الصربي قائلا: “نحن نفعل ذلك احتراما لأنفسنا وبلدنا وللقانون الدولي. نحن نعرف ما هي العقوبات وكيف أنها غير نزيهة وغير ضرورية”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن صربيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم توقع عقوبات على روسيا، وتركت مجالها الجوي مفتوحًا للروس.
- امتنعت مصر عن التصويت على قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان حيث صرح مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة السفير أسامة عبد الخالق قائلا: ” تعتبر مصر أن ما نحن بصدده اليوم -اتصالاً بطرح مشروع القرار- يمثل منعطفاً خطيراً في مسار منظمة الأمم المتحدة على مدى عمرها”، غير أن صربيا صوتت لصالح القرار بعد ذلك بسبب “الضغوط ” من قبل الغرب على حد قول الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش.
هذا ونشير إلى أن صربيا تمثل أكبر دول غرب البلقان ، وكانت من الدول المرشحة بقوة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى ولكن الخلافات مع كوسوفو عرقل هذا الانضمام.
2- العلاقات الاقتصادية
بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وصربيا نحو 80 مليون دولار في عام 2021 مقابل 104 ملايين دولار في عام 2020، فيما بلغت الصادرات المصرية إلى صربيا 42.39 مليون دولار عام 2021 مقابل 65.90 مليون دولار عام 2020. فى حين بلغت صادرات صربيا إلى مصر 37.35 مليون دولار عام 2021 مقابل 38.10 مليون دولار عام 2020.
وتشمل الصادرات المصرية إلى صربيا: الفاصوليا اليابسة بأشكالها المختلفة، الألواح والصفائح وأغشية الأفلام،البرتقال الطازج، خيوط القطن، والنباتات وأجزاؤها، بينما تضم أهم الواردات المصرية من صربيا: ذرة صفراء لغير البذار، التبغ المفروم، الورق والورق المقوي، المواد البروتينية، الإطارات الخارجية الهوائية، الخشب الزان، الجرارات.
هذا وقد أبدى رجال أعمال صربيين رغبتهم فى التعاون مع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس فى إنشاء صوامع تخزين للقمح الصربى داخل المنطقة لما تتمتع به من مزايا وإعفاءات تجعلها المنافس الأكبر ضمن المناطق الاقتصادية فى العالم .
هذا ويبذل الطرفان جهودا لعقد اتفاقية تجارة حرة بين البلدين بحلول نهاية العام، فضلا عن إعادة فتح شركة طيران مباشر مع القاهرة لتسهيل عملية الاستثمار والتبادل التجاري .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن معدل التبادل التجاري بين البلدين يُعد متواضعًا مقارنة بحجم التبادل التجارى بين مصر ودول أخرى، ويؤكد الخبراء أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية لاسيما وأن صربيا تتمتع بنفوذ قوى فى منطقة البلقان، ومن ثم تشكل بوابة للصادارات المصرية للمنطقة، وفى المقابل تمثل مصر لصربيا بوابة للترويج للصادرات الصربية فى قارة إفريقيا.
ومن المتوقع أن تشهد العلاقات الاقتصادية بين الدولتين دفعة قوية خلال الفترة القادمة جراء توافد الاستثمارات الصربية لمصر من خلال مجلس الأعمال المصري الصربي الذي توليه القيادة السياسية اهتماما كبيرا لضمان تحقيق التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، بهدف تخطى تداعيات أزمة أسعار الطاقة ومدخلات الإنتاج والغذاء التى تجتاح العالم حاليا.
ثالثا: دلالات الزيارة والتوقيت
تحمل زيارة الرئيس السيسي الأخيرة إلى صربيا دلالات عديدة حيث إنها تعكس أهمية الارتقاء بعلاقات البلدين فى ظل وجود تحديات كبيرة تواجه دول العالم جراء الحرب الروسية الأوكرانية وما سبقها من تداعيات لجائحة كورونا، والتى نتج عنها تباطؤ في وتيرة الاقتصاد العالمي واحتمالات دخوله فى ركود تضخمي.
فالمرحلة الراهنة تتطلب إبرام شراكات وصياغة أطر تعاونية بُغية تقليل حدة الآثار الاقتصادية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية من جهة ، وتداعيات التغيرات المناخية من جهة أخرى، الأمر الذى قد يعصف بعدد من الاقتصادات الناشئة.
وعليه، تُؤكد الدولة المصرية على جاهزية مناخ الاستثمار لديها، وتسعى جاهدة للترويج للاستثمار الإقليمى والدولى بها خاصة بعد جاهزيتها لاستقبال المزيد من تدفقات رؤوس الأموال بعد إصلاح هيكلي دام قرابة الست سنوات متواصلة بالتزامن من إحلال وتدشين للبنية التحية بصورة حضارية وفق معايير عالمية.
هذا وقد تستهدف الدولة المصرية وضع دولة صربيا على قائمة موردي القمح وذلك فى ضوء اتجاه الدولة لتنويع موردي القمح لديها بسبب تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، لاسيما وأن صربيا تُعتبر ضمن أول 15 دولة في العالم في تصدير القمح، فى حين تعتبر مصر من أكبر مستوردى القمح على مستوى العالم ويمثل هذا المحصول أهم السلع الاستراتيجية للشعب المصرى.
كما أن الدولة الصربية تسعى للاستفادة من خبرات مصر فى مجال الطاقة المتجددة خاصة الطاقة الشمسية وطاقةالرياح وذلك فى إطار مساعيها لتنويع مصادرها من الطاقة جغرافياً ونوعياً.
كما أن الزيارة تحمل دلالات هامة حيث إنها قد تُمهد لمشهد سياسي مشابه لأجواء الحرب الباردة التى كانت تتصف بها حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، تلك الأجواء التى دفعت دولا كمصر وصربيا إلى تأسيس حركة عدم الانحياز والتأكيد من خلالها على الابتعاد عن التكتلات والصراعات بين الدول الكبري، وعدم الانتماء للأحلاف العسكرية المتعددة الأطراف.
وقد تتجاوز الزيارة بعدها الثنائي، ويمتد صداها لبعض الدول فى العالم العربي وإفريقيا، وهو ما انعكس فى توافد عدد من القيادات السياسية للقاهرة عقب هذه الزيارة مثل وزير الخارجية الروسي واجتماعه بالمندوبين الدائمين بالجامعة العربية وتأكيده على دور مصر الفاعل، وتلاها زيارة الرئيس الصومالى للقاهرة للتباحث حول أهم القضايا التى تهم القرن الإفريقي نظرا للدور الذى تلعبه مصر مع أطراف دولية متعددة لصياغة إطار تعاون مشترك للخروج من وطأة التأثير السلبي لتراجع سلاسل الإمداد والطاقة فى العالم والتى لها بالغ الأثر على دول عديدة فى مقدمتها الدول الإفريقية.
رابعا: آفاق التعاون المستقبلية وسبل تعزيزها
خلال الزيارة الرئاسية الأخيرة فى يوليو 2022 ، تم التوقيع على الإعلان المشترك بشأن إقامة شراكة استراتيجية بين صربيا ومصر، فضلا عن 12 اتفاقية تعاون أخرى فى مجالات مختلفة كالمشروعات الصغيرة والمتوسطة والتعليم والمعلومات، والزراعة والثقافة والإعلام والفن والبيئة، إلى جانب التوقيع على مذكرة تفاهم بشأن الإلغاء المتبادل للتأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية والرسمية والخاصة.
وعلى الرغم من تاريخية وزخم العلاقات بين مصر وصربيا ، إلا أنه يمكن تعظيم الاستفادة من هذه العلاقات فى ظل توافق الإرادة السياسية فى البلدين حول أغلب القضايا السياسية والاقتصادية بما يحقق مصالح الشعبين وذلك من خلال:
1- تعظيم معدلات التبادل التجارى بين البلدين بما يتوافق مع حجم التفاهمات السياسية بينهما .
2- اعتبار مصر مركزا استراتيجيا لوجيستيا لدخول البضائع الصربية إلى إفريقيا.
3- تصدير الغاز المصري خاصة فى ظل سعى بلجراد لإيجاد لتنويع مصادر وإمدادات الطاقة لديها.
4- سرعة الانتهاء من تفعيل اتفاقية عدم الازدواج الضريبى والتى ستسهم فى زيادة حجم التبادل التجاري بين البلدين.
5- تعظيم الاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة حاليا فى مصر خاصة فى قطاعات السياحة والصناعات الدوائية والاتصالات والإسكان.
6- صياغة اتفاقات تتعلق بتحقيق الأمن الغذائى لمصر وصربيا مع تعزيز التعاون التجارى فى المنتجات الزراعية.
7- تكثيف جهود إقامة اتحاد اقتصادى صربي مصري يضم رجال الأعمال من البلدين وبحث سبل تبادل المنتجات والبضائع والمواد الخام بين مصر وصربيا.
8- زيادة التعاون السياحى بين القاهرة وبلجراد لاسيما وأن مصر تمثل وجهة سياحية هائلة للسائحين من صربيا خاصة منطقة البحر الأحمر.
9- إقامة منطقة تجارة حرة بين القاهرة وصربيا بهدف تعزيز التعاون التجارى والاستثمارى بين البلدين ووضع أسس لشراكة جادة خاصة فى المنطقة الاقتصادية بمحور قناة السويس وما تحمله من فرص استثمارية واعدة وما تشمله من مناطق صناعية ولوجيستية.