مقالات Archives - المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية https://draya-eg.org/category/المركز-الاعلامى/مقالات/ Egypt Fri, 16 Feb 2024 10:19:00 +0000 ar hourly 1 https://wordpress.org/?v=6.3.3 https://i0.wp.com/draya-eg.org/wp-content/uploads/2021/06/cropped-ico.png?fit=32%2C32&ssl=1 مقالات Archives - المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية https://draya-eg.org/category/المركز-الاعلامى/مقالات/ 32 32 205381278 قراءة فى كتاب “نبض الخاطر” للكاتب صلاح هاشم https://draya-eg.org/2024/02/16/%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%a1%d8%a9-%d9%81%d9%89-%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d9%86%d8%a8%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a7%d8%b7%d8%b1-%d9%84%d9%84%d9%83%d8%a7%d8%aa%d8%a8-%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d9%87%d8%a7%d8%b4%d9%85/ Fri, 16 Feb 2024 10:19:00 +0000 https://draya-eg.org/?p=7656 بقلم: د. سعيد الحسين عبدلي حول الكتاب والكاتب: كتاب “نبض الخاطر” لئن اعتبره المؤلف من صنف السيرة الذاتية فإنه تجاوز هذا الحد كثيرا فكان أقرب ما يكون لأسلوب عبد الله ابن المقفع في “كليلة ودمنة” ووفيا لأسلوب غرامشي في النقد والالتزام بقضايا المجتمع. هو كتاب فاق حجمه بالقياس العددي 66 صفحة فكان أكبر بذلك بكثير …

The post قراءة فى كتاب “نبض الخاطر” للكاتب صلاح هاشم appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: د. سعيد الحسين عبدلي

حول الكتاب والكاتب: كتاب “نبض الخاطر” لئن اعتبره المؤلف من صنف السيرة الذاتية فإنه تجاوز هذا الحد كثيرا فكان أقرب ما يكون لأسلوب عبد الله ابن المقفع في “كليلة ودمنة” ووفيا لأسلوب غرامشي في النقد والالتزام بقضايا المجتمع. هو كتاب فاق حجمه بالقياس العددي 66 صفحة فكان أكبر بذلك بكثير لما نتأمل في القضايا التي طرحها والتي امتدت على 13 مشهدا سنأتي على توضيح مدارات اهتمامها.

صدر “نبض الخاطر” عن دار أطلس للنشر والتوزيع للكاتب صلاح هاشم، وهو الكاتب الذي يحمل في رصيده أكثر من 16 كتابا فضلا عن المقالات والدراسات، هو أستاذ التنمية والتخطيط بجامعة الفيوم في مصر. 

محتوى الكتاب:

يتكون من مستهل و13 مشهدا تعبر عن المعيش المصري كما عايشها الكاتب في المجتمع الذي ترعرع فيه: الله، القدر، الحياة، الموت، الحب، الصداقة، الأم، الوطن، العدل، الحرية، العلم، الفقر والفساد. فمثل هذه العناوين تكاد تكون هي نفسها مشاغل كل إنسان في البيئة العربية وليس فقط مصر. فالكاتب هنا جاب بذاكرته المفعمة بالحب والألم في آن واحد في كل أرجاء مصر، إذا يقول ” لقد كنت أمينا في نقل أفكار ومشاعر الذين تزاملت معهم عبر حياتي الماضية، كما كنت أمينا في رصد أوجاعهم التي عجزت ألسنتهم آنذاك عن التعبير عنها، كما كنت حريصا على أن أنقل ملاحظاتي في سياسات الحكومات فيما يتعلق بتعاملاتها مع قضية الفقر وهموم الفقراء، أملا في تغيير سياساتها إلى الأفضل، من أجل دولة قوية تقوم على السلام والحوار العادل بين الحكومة والشعب.”

فهو بذلك نقل آلام الناس ومعاناتهم وصوّر كل ذلك في شكل مسترسل وعفوي بعيدا عن لغة الخطابة الزائدة والتحرر قدر الإمكان من ضبط الكتابة التقليدية التي تستلزم إثراء النص بشواهد من دراسات أخرى. فكان المتخيّل والرؤية الثاقبة كفيلتان بالنسبة للكاتب صلاح هاشم لرسم معاناة الفقراء والفئات الهشة وحتى تلك الهامشية والتي سماها بلغة الملفوظ الشفوي التي نبتت فيها.

هذا الكتاب فيه مراوحة بين لغة الوجدان والعقل..الوجدان لما يكون الكاتب جزءا من معاناة النــــــاس الذي كان هو نفسه واحدا منهم وجعلته وفيا، متحمسا لمناصرتهم، يعتبرهم جزءا من ذاته..ولكن سرعان ما تتراء لغة العقل والعلم والحال أنه المتخصص في مجال التنمية والتخطيط فتراه بين الفينة والأخرى يُنزّل تلك المشاهد وفق سياقاتها المعرفية متحمسا لضرورة جعلها في أولويات الإصلاح والتنمية حتى أنه يعتبر أن مقاومة الفقر هو أولوية مطلقة من دونها لا يمكن تحقيق التنمية والقفزة المصرية، ولذلك يقول:” لن تتوقف أنهار الفقر عن التدفق إلا إذا تبنت الدولة سياسات تحفز الفقراء على العمل والإنتاج، وتحفز الحكومة على تطبيق العدل، وتكف أيدي المسئولين عن الفساد”

هذا الكتاب عالج مفهوم الإنسية المصرية، الإنسية باعتبارها أبلغ المفاهيم المستخدمة في الحقل السوسيولوجي العربي كما نقرؤها في كتاب بوحديبة الموسوم بـــ”الإنسية في الإسلام” وخاض فيه جملة من المفاهيم المغلوطة في مجتمعنا العربي كتلك التي تناولها صلاح هاشم خاصة في مشهد القدر والله..” إذا أردت أن تكون إنسانا فليكن لك قلب تملؤه مراجيح الأطفال، وعقل تسكنه حكمة الشيوخ…داووا مرضاكم بالحب، فإن الحب “صدقة العاشقين”..و”زكاة” الغلابة والمساكين” ليؤسس بذلك إلى فلسفة الحب باعتبارها المنقذ من الموت بعيدا عن كل معاني الثقافة الصفراء التي مست حتى التمثل للدين وتعاليمه والحياة والموت، ولأن الإنسان هو الإنسان والله واحد فإن الكاتب عمل على تقويض النظرية القائلة بأن الاختلاف الديني يزرع الاقتتال بين الناس ويكون مبررا للتباغض وإحداث الفرقة في الجسم الاجتماعي مما يهدد السلم:” هل جربت “الحب” يا ولد ..هل تذوقت حلاوته؟ ..هل جربت أن يكون قلبك”معلّق” على صدر الحبيب..إذا غضب”الحبيب” لا تنام..ولا تنام حتى يرضى..لم يكن “محمد” والمسيح متخاصمين بل كانا أخوين متحابين في الله ، غزا” المسيح” العالم بتعاليمه المحبة، غزا الإسلام العالم بتعاليم التسامح..” .. وبصيغة متهكمة أحيانا وبلغة الحكمة في مواقع أخرى يتطرق إلى آفة الإرهاب الذي نخر الجسم العربي ومنه المصري مبرزا أن الإسلام هو دين حياة وليس موت. وفي هذا السياق بقي وفيا لنفس المنهج الإرشادي:” عودوا إلى ربكم ببعض “لقيمات” في بطن جائع، و”ابتسامة” في وجه مهموم، و”مسحة” يد على رأس يتيم..(…) الدين واسع، وكل يأخذ منه على قدر فهمه، وكل يأخذ منه على قدر طاقته..وكل يحصل منه على قدر إيمانه..الله رحيم يا سادة..فلماذا لا نصبح رحماء مثله..؟ “

هذا الكتاب عبارة عن مغامرة في التفكير الجديد من أجل نقل مشاغل المجتمع وتصورات أفراده ألمح فيه الكاتب إلى ما يجب أن يكون. فبرزت لغة الحكيم والوطني المخلص فهو على حد تعبير غرامشي ذلك المثقف الملتزم. ولعل ذلك هو مبرر “جنون” الدكتور صلاح بحب وطنه: ” وطني الحبيب ..أنا لست بعيدا عنك إلى هذا الحد..فقط بيننا “بحر” هائج تسكنه الثعابين..(..) مصر بلد عظيم.. فلا تعيشوا بداخلها “أقزام”..(…) مصر أقوى وأكبر من سكانها..لا تقبل أن يحكمها ضعفاء، أو يسكنها دهماء..” هذا الحب كما فهمته في روح الكاتب هو أنه يريد أن يدرأ عن مصر كل ماهو معيب مثبّط لنمائها وخاصة الفقر الذي هو الشغل الشاغل للكاتب صلاح هاشم خاصة من خلال انتصاره لفئة الفقراء ويدعوا بكل جرأة إلى تجاوز بعض مضامين التراث البالية والتي كلما استعرضها بصيغة التهكم إلا وأعقبها بحكم ونصائح كقوله :”علمونا في المدارس أن الجهاد في سبيل الله يكون بقتل النفس، ونسموا أن يعلمونا أن الجهاد الأعظم في “احيائها”:” ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا “..نحتاج مجددا لإعادة هيكلة التعليم الديني في إطار قراءة سليمة للقرآن والسنة..بعيدة عن الغلو والتشدد..فلسنا بحاجة لــ”ضحايا” جدد لــ”فهم” ديني مغلوط.. ” وهنا تبرزه نداءاته الجريئة للإصلاح داعيا إلى التجديد في ظل عالم شديد التحول من أجل بلوغ المنشود وتحقيق الرخاء لأنه حسب قوله” الشيء الوحيد الذي يجب أن تموت من أجله هو الوطن..فإذا عاش الوطن عاش فيه جميع من تحب..وإذا ما احترق..احترق الوعاء الذي تنصهر فيه مع من تحب.. (…) حينما يريد الله لنا النهضة سوف يمنحنا الإيمان بالعمل، ويحبب إلينا الصلاة في الحقول، والذكر على تروس ماكينات الإنتاج، ويرزق المسئولين سعادة العمل في حب الوطن، وليس في بناء أمجاد شخصية.. ” ومثل هذا الأمر عمل على تفكيكه في كتابه الموسوم بــ “الفقراء الجدد”.

هذا الكتاب هو إثراء للمكتبة العربية لأنه كتاب الإنسان العربي المنشود بعيدا عن كل إسقاطات الايدولوجيا وليس هذا بغريب عن فكر الكاتب صلاح هاشم الذي كان لي شرف لقائه والاستمتاع بمحاضراته في تونس، فهو لا يكل ولا يمل من الدعوة إلى التجديد ونبذ الثقافة الصفراء ثقافة الموت، فالإنسان والمجتمع والتجديد ثالوث مكون لفكر الكاتب كما فهمناها في نبض الخاطر.

The post قراءة فى كتاب “نبض الخاطر” للكاتب صلاح هاشم appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
7656
الثورات وإسرائيل وكأس الحرية المسموم.. https://draya-eg.org/2023/10/19/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d9%88%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%88%d9%83%d8%a3%d8%b3-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%85%d9%88%d9%85/ Thu, 19 Oct 2023 14:03:52 +0000 https://draya-eg.org/?p=7291 بقلم: د/صلاح هاشم عقدان متتاليان من الأزمات والكوارث ..العقد الأول بدأ في ٢٠١١ بتصدير ثورات جاهزة بغرض تقويض الأنظمة العربية والعمل على إسقاطها ..لم يكن في الحقيقة الهدف هو إسقاط النظام بقدر ما كان الهدف هو إسقاط الدول تحت شعار زائف اسمه “ثورات الربيع العربي” ..والتى لم تخرج منها البلدان العربية سوى إلى خريف مُعتم …

The post الثورات وإسرائيل وكأس الحرية المسموم.. appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: د/صلاح هاشم

عقدان متتاليان من الأزمات والكوارث ..العقد الأول بدأ في ٢٠١١ بتصدير ثورات جاهزة بغرض تقويض الأنظمة العربية والعمل على إسقاطها ..لم يكن في الحقيقة الهدف هو إسقاط النظام بقدر ما كان الهدف هو إسقاط الدول تحت شعار زائف اسمه “ثورات الربيع العربي” ..والتى لم تخرج منها البلدان العربية سوى إلى خريف مُعتم لا تزال الشعوب تتجرع مرارته حتى الآن وكأنها تشرب كأساً من الحرية مسموم ..

أما العقد الثاني من هذا القرن المُعتم فبدأ بتصدير كوارث من نوع مختلف وبدأ المتآمرون في كشف المستور وإماطة اللثام عن الوجه القبيح من خلال تصدير أزمات جديدة من نوع مختلف إلى العالم والسحب التدريجى إلى المنطقة العربية، ثم إلى القرن الإفريقي، ثم إلى مصر “الوحش المستهدف” الذي رفض التهجين واستعصى على الإنكسار والهزيمة ووقف في وجه المؤمرات شامخا كالنخيل الباثقة..

لقد شهد ذلك العقد العجيب ألواناً من الأزمات بدأت بعواصف ترابية مهلكة وجوائح بيئية قاتلة ..وتصدر أزمات اقتصادية طاحنة وحروب وانقسمات شعبية فارقة في بناءات الدول وأخير حروب سياسية وعسكرية تسببت بشكل مباشر في رفع معدلات التضخم والعمل على تجويع العالم من خلال التحكم في سلات الغذاء وأسعار محتواياتها من حبوب وزيوت ..

قد لا يروق لبعضكم أن أربط ما يحدث بين كل هذه الظواهر البيئية والاقتصادية.. وقد لا يروق لبعضكم أن أربط بين الحرب الروسية الأوكرانية وبين الحرب غير المتكافئة التى تشنها إسرائيل بقوتها الغاشمة على شعب فلسطين الأعزل .. وقد لا يروق لحضراتكم أن أربط بين موجات التطبيع مع إسرائيل والحرب الروسية الأوكرانية والأوضاع الاقتصادية الصعبة التى يعيشها المصريون والطموح التنموى الكبير للدولة المصرية وبناء سد النهضة “الملعون” الذى لا يهدف إلى تنمية أثيوبيا بقدر استهدافه تجويع المصريين وإرغام القرار المصرى على بيع القضية الفلسطينية والعمل على إنهائها بأى شكل ولو على حساب سيناء الغالية ..

أتصور أن الهدف واحد وهو إحكام قبضة إسرائيل على مقدرات العرب ..وكأننا واقعون بتصريح دولي بين خيارين إما أن نقبل بوجود إسرائيل المغتصبة وإما أن نقبل بالدمار والتخريب والعيش في أزمات سياسية واقتصادية طاحنة ..

لكنني أقولها صادحة عالية كما فشلت إسرائيل على مدار قرابة ٧٥ عاما في تسويق قضيتها الزائفة وكسر إرادة الشعب الفلسطيني الأبي وعجزت عن تهجيره القسرى من أراضيه ؛ فإنها فاشلة لا محالة في أن تجعل سيناء هي الحل البديل للقضية.. وفاشلة لا محالة في أن تجعل سيناء وطناً بديلا للفلسطينين ..وفاشلة فى تجويع المصريين واختراق نسيجهم الوطني المتين ..فخلف القيادة السياسية والجيش ١٠٠ مليون مواطن يقولون لا، ليس بالكلام ولكن بالدماء والفداء ..فسيناء قطعة من جسد المصريين وأرواحهم ..لا يمكن انتزاعها بحال .. لقد أثبت التاريخ أن المصريين في الأزمات يزداد ترابطهم وتماسكهم .. فلا تفرق بين جندى يحمل السلاح في الميدان وفلاح يحمل الفأس في الغيط ..كلاهما يعمل للوطن وتبادل الأدوار مرهون بتبادل الظروف والأحوال بين الحرب والسلام ..

 

The post الثورات وإسرائيل وكأس الحرية المسموم.. appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
7291
العقل والديكتاتورية الآمنة..! https://draya-eg.org/2023/07/26/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%82%d9%84-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%aa%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a2%d9%85%d9%86%d8%a9/ Wed, 26 Jul 2023 14:55:51 +0000 https://draya-eg.org/?p=6973 بقلم: أ.د. صلاح هاشم  مرَّ الذئبُ بالأسد ووجده مهموماً فسأله: ما لي أري ملكُ الغابة اليوم مكتئبا، فقال الأسد: كيف لا أكتئب يا .. وقد أصبحت وحيداً بعد أن نفرت مني حيوانات الغابة خوفاً، ردَّ الذئب عندي لك حيلة: اربطك إن وافقت على الشجرة هناك فتألفك الرعية، ويجالسك القاصي والداني.  وافق الملك في لحظة غفلة …

The post العقل والديكتاتورية الآمنة..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: أ.د. صلاح هاشم

 مرَّ الذئبُ بالأسد ووجده مهموماً فسأله: ما لي أري ملكُ الغابة اليوم مكتئبا، فقال الأسد: كيف لا أكتئب يا .. وقد أصبحت وحيداً بعد أن نفرت مني حيوانات الغابة خوفاً، ردَّ الذئب عندي لك حيلة: اربطك إن وافقت على الشجرة هناك فتألفك الرعية، ويجالسك القاصي والداني.

 وافق الملك في لحظة غفلة ليتحول بعدها إلى سخرية الغابة، أسدٌ مربوطٌ معلقٌ على شجرة يرفسه هذا بلؤم ويقذفه ذاك بسوء، فتضاعف حزنه إلى أن مر بهِ الحمار قائلاً: ياللعجب ملكٌ مقيدٌ ورعيةٍ تلهو به.. ما بال سيدنا…؟ فأجاب الأسد ماذا أقول يا حمارنا الحبيب، حيلةٌ أقنعني بها ذئب، ومَرَّغَ بها أنفي في التراب ..!

 فانتفض الحمار نخوةً وقال: سرحتك من قيدك إن شئت يا سيدي…! رد الأسد قائلاً: وهل يرضى ذو عزةٍ بالقيود يا حمار …؟!، ففكه الحمار؛ ليجمع الأسد على الفور متاعه إيذانا منه بالرحيل عن مملكته، إلا أن الأرانب قد اعترضت طريقه كي لا يهجر الغابة.. وهنا وقف الأسد في منتصف الطريق منكسراً يجمع ما تبقى من هيبة لأسود وعزة الملوك وقال: لا أمان في وطنٍ تقيُّد فيه الذئاب الأسود..  وتفك فيه الحمير الكروب.

هي دعوة لإعمال العقل وعدم التفريط في المنطق الذي بدونه تفقد الأشياء مسمياتها.. ويصبح الحوار بين البشر شبه مستحيل.. فحين يغيب العقل ينكسر المنطق وتعمل آلة المخ بالمعكوس.. ولا يتفق الناس على مبدأ واحدٍ ولا على رؤية ثابتة.. فكيف للحياة أن تقوم على متغيرات دون ثوابت التى هي بالأساس أوتاد تحكم سيرة الحياة في أي مجتمع ..!

وما زالت الغابة ترسل حكاياتها إلينا وتجعل الحكمة راسخة في أفواه الحمير..  حيث يقول الفيلسوف العراقي الكبير على الوردي.. فتح الحمار ذات يومٍ مذكرة يومياته وكتب فيها: أنا لا اعرف كم مضى من الزمن على رحيل الأسد.. ولكن وصلت في نهاية عمري إلى قناعة راسخة لكنها قاسية ومؤلمة مفادها إن ديكتاتورية الأسد أفضل من حرية القردة والكلاب.. فهو لم يكن يستعبدنا بل كان يحمينا من قرود تبيع نصف الغابة مقابل الموز، وكلاب تبيع نصفها الآخر مقابل العظام..!

وهنا دعوة جديدة لإعمال العقل والإدراك الجيد للسلوك الإنساني.. وتفسير عاقل للسلوك، وتقديم منطقي لفكرة ” الديكتاتورية الآمنة ” التي يفرضها واقع معتم وفوضي في التفكير والتعايش، وجهل عميق في قراءة المشاهد والتحليل والتفسير، وتغافل تام عما يحاك للأوطان في الظلام.. وحتى لا تسقط المجتمعات فريسة تحت أقدام القرود والكلاب وأصحاب المصالح والبطولات الورقية المزيفة..!

ولنا عظة أخرى في الشمس والقمر والنجوم وآلاف المجرات وكل ما خلق الله في هذا الكون، والتي تتحدث بصمتها البليغ عن حق الإنسان في البقاء على قيد الحياة، وحقه في الحياة الأمنة، وحقة في الماء النظيف والغذاء والسكن، وحقه في العدل والأمن والسلام.. وهناك بشر مازالوا يتشدقون بالعدل ويطالبون بحق صرصار قتل في بلدِ ميتِ دهساً تحت عجلات قطار لا يصلح أصلاً للسير..!

فلن تستقيم الحياة برأيي سوى بالأخلاق وبدون المنطق تصبح المجتمعات هشة سهلة الانكسار والانهيار.. حتى الغابة إن غاب فيها المنطق فقدت اسمها وتحولت إلى شيء هُلامي غير معروف، لا مكان فيه للأسد أو الفأر وتعرض كل ما فيها للانقراض..!

 حين يغيب العقل تنتصر الهشاشة والسطحية ويسود القبح ويتوارى الجمال..!، وحين يغيب العقل يغيب العدل.. وكما قال الشاعر القديم:

قتلُ إمرءٍ في غابة جريمةّ لا تغتفر.. وقتلُ شعبٍ آمنٍ مسألة فيها نظر..!

  وهنا تتبدى ثقافة الكيل بمكيالين التى تقوم بالأساس على استهجان المنطق وتحييد العقل والاحتكام لمبدأ المصلحة الذي تحميه القوة..!

 فحين يغيب العقل تتلاشى الحدود بين الليل والنهار.. يخاف الناس من الشمس.. ويعتبرون الجهر بالرزيلة عنوان لقوة الشخصية وقوة الإيمان معاً.. وأن الخوض في أعراض الناس وذممهم دليل على صحة الضمير ونزاهة الشرف …!  فحين يغيب العقل تضيع الحكمة، وحين يغيب القلب تضيع الرحمة، وحين يغيب الضمير يموت القلب والعقل معاً …!

أتذكر أيضاً لما حصل مناحم بيجن رئيس وزراء اسرائيل على جائزة نوبل بعد معاهدة السلام مع مصر.. اعتبر المثقفون المصريون أن هذا الترشيح لمبدأ القوة التي لا تحترم المنطق الإنساني البسيط.. وحينها كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة ” جايزة نوبل ” والتي قال فيها:

 يعنى مناحم بيجن 

ياخد جايزة نوبل

تبقى النوديا

يعنى الدنيا

ماشيه بتحدف بالمندار

يبقى الشهر اتناشر ساعة

يبقي اليوم

ليلتين ونهار

يبقى القاتل

شخص ضحية

والمقتول مجرم جبار..!

 وحينها تيقنت أنه حين يغيب العقل تٌقدس الرزيلة وتُوصم الفضيلة ويتولى الأمر محدودو الفكر والثقافة والأفق.. وحين يغيب العقل تختلط الألوان وتعمى الأبصار والبصائر وتغيب القدرة على التمييز، وتتضارب معايير التفضيل، ويضيع بين الناس فقه الأولويات؛ فيتقدم الاهتمام بأدوات الذبح على تربية الذبائح، ويتقدم الاهتمام بطرق إعداد الطعام على طرق إنتاج المحاصيل، ويتقدم الاهتمام بأشكال أواني الشرب على إصلاح صنابير المياه المهدورة..!

 وختاما أُؤكد أنه حين يغيب العقل تتحول المجتمعات إلى أشباه مجتمعات.. والدول إلى أشباه دول.. والبشر إلى أشباه بشر.. والعلماء إلى أشباه علماء..  ويتحول الإنسان إلى نصف كائن.. وتسود بقوة ثقافة النصف التى تفرض على الإنسان كامل العقل بأن يؤمن بأن نصف حياةٍ خيرّ من الموت..!

The post العقل والديكتاتورية الآمنة..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6973
متلازمة الإصلاح والتنمية.. مخاوف الغرق وآليات النجاة (3) https://draya-eg.org/2023/05/03/%d9%85%d8%aa%d9%84%d8%a7%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%ae%d8%a7%d9%88%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d9%82-%d9%88%d8%a2%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ac%d8%a7%d8%a9/ Wed, 03 May 2023 13:47:26 +0000 https://draya-eg.org/?p=6687 بقلم: أ. د/ صلاح هاشم استكمالاً لحديثنا السابق عن متلازمة الإصلاح والتنمية، وفى سياق الحديث عن نظرية الثلث في المئة التى تناولتها عبر المقالتين السابقتين .. إذ ينبغي هنا الحديث عن فلسفة تلك النظرية والتي تنطلق من فكرة مؤداها أن وصف المجتمع بأنه مجتمع ناهض أو منتج أو صالح لا يعنى أن (  50 % + …

The post متلازمة الإصلاح والتنمية.. مخاوف الغرق وآليات النجاة (3) appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: أ. د/ صلاح هاشم

استكمالاً لحديثنا السابق عن متلازمة الإصلاح والتنمية، وفى سياق الحديث عن نظرية الثلث في المئة التى تناولتها عبر المقالتين السابقتين .. إذ ينبغي هنا الحديث عن فلسفة تلك النظرية والتي تنطلق من فكرة مؤداها أن وصف المجتمع بأنه مجتمع ناهض أو منتج أو صالح لا يعنى أن (  50 % + 1)  من أبناء هذا المجتمع ينبغي أن يكون صالح .. فمثلاً عدد القوى العاملة أو المنتجة في الصين لا تتجاوز 150 مليون من إجمالي مليار وأكثر من 300 مليون نسمة .. أما فى مصر فحجم القوى العاملة لا يتجاوز 30 مليون من إجمالي 106 مليون نسمة تقريباً .. وربما يكون فرد واحد منتج يكفى لإعالة أسرة مكونة من ( 3 أفراد أو أكثر).. وهو بهذا الإنفاق يضمن بقاء الأسرة بيولوجياً لكنه لا يضمن تنميتها على النحو المطلوب إذا لم يكن الثلث على الأقل من أفراد الأسرة منتج  !

نشأة المجتمع الإنساني

بالعودة إلى الحديث عن فلسفة هذه النظرية علينا فقط أن نبحث في آلية نشأة المجتمع الإنساني الذى عادة ما يبدأ بالزواج بين طرفين (ذكر وأنثى) بشرط أن يكون هذا  الزواج قادر على الإنجاب .. ويعتبر الطفل هنا تعبيراً صادقاً عن نجاح عملية الزواج وتحقيق الهدف منها، وهو بقاء النوع وتعمير الأرض.

 ومن هنا تتشكل الأسر، ووفقاً لعدد هذه  الأسر يتكون المجتمع الإنساني وهذا ما أسفرت عنه كافة أدبيات العلوم الاجتماعية .. والسؤال  الذي يطرح نفسه هنا كم عدد  الحيوانات ” المنوية ” التى تحتاجها عملية ” الإخصاب ” كي تنتج هذا الطفل .. والإجابة هنا كشفها علماء الطب الذين أوضحوا أن عالم الحيوانات المنوية مكون من حيوانات ” منوية نشطة ”  وأخرى ” مشوهة ”  وثالثة  “ميتة ” .. ورغم أن علاقة التزاوج يتضمنها  قذف ملايين الحيوانات المنوية و أن عملية الإخصاب نفسها  تحتاج إلى حيوان منوى واحد  فقط نشط كي تتم؛ إلا أن الدراسات العلمية  أكدت أنه إذا كان لدينا فقط  30 % من الحيوانات نشط و 30 % مشوهة و 30 % ميت، فإن احتمالية إتمام عملية الإخصاب قد تكون ضعيف للغاية، وربما يوصف الذكر بأنه ” عقيم “.  رغم أنه قد أنتج قرابة 30 مليون حيوان منوي نشط ..!

والحل هنا  يكمن في العمل على زيادة أعداد الحيوانات المنوية النشطة لتكون ( 30% + 1 ).. وبديهياً فإن زيادة الأعداد النشطة عادة ما يكون على حساب تخفيض النسبة المشوهة، دون النظر بالطبع إلى النسبة الميتة ..  وتأسيساً على ما سبق فإن المجتمع الإنساني أو الحيواني أو غيره يقوم وينشأ وينمو انطلاقاً من  فكرة(  الثلث + 1 ) .

ومن ثم فإن طرحنا لفكرة تقسيم المجتمع الإنساني إلى ” ثلاث فصائل ”  كما ذكرتها في مقالتي السابقة تتسق تماماً مع هذه الفكرة  .. حيث إن إصلاح المجتمع وتطويره وتنميته لابد وأن ينطلق من  دعم الأكفاء ” من أفراد الشعب وتحويلهم من حسب ما أسميته فى المقال السابق ( إنسان النصف ) أو “الراكب المجاني” إلى مواطنين صالحين، قادرين على اتخاذ القرارات الرشيدة التي تصيب عين الحقيقة في كل أمور حياتهم، وكل ما يتعلق بتنمية المجتمع واصلاحه والحفاظ عليه .. فهذه الفئة _ الثلث المشوه أو إنسان النصف أو الراكب المجاني – هي التي تملك القدرة الكاملة على التحول إلى الإيجابية والسلبية متى امتلكت الرغبة والحافز والإرادة الكاملة للتغيير .

ومن هنا تأتي أهمية التعليم وبرامج تنمية الواعي والتحفيز الأدبي والمادي والقدرة على اكتشفا وتفجير واستثمار الطاقات الكامنة لدى شخصية الراكب المجاني اللامبالي أو المتفرج أو الذى نطلق عليه فى مصر  مجازاً ”  حزب الكنبة “..! بغض النظر تماماً عن الفصيل الثالث المناهض للتنمية والتغيير والإصلاح، والذى تكمن مصلحته دائماً في الإبقاء على الوضع الراهن، والذى يتجسد حرفياً في شخصية  “قاسم السماوي ” في حكاية على بابا والأربعين حرامي .. والذى يبحث دائماً عن نقاط الضعف فى المجتمع وينتظر الأزمات والكوارث التى تُضعف الدولة ليحول تلك الأزمات إلى فرص للتربح الشخصي وتعميق جذور الفساد فيما تبقى من جسد الدولة وبالطبع يعتبر الثلث الذى يمثله الراكب المجاني لقمة سائغة يسهل على الفساد ابتلاعها إذا لم تجد حماية حقيقية من الثلث الصالح فى المجتمع  .. فحين تكثر فى مجتمع ما أعداد  الخرابات والبِرك ومقالب الزبالة، تنتشر الفئران والجرذان والعقارب والثعابين والكلاب الضالة .. !

إصلاح الثلث المشوه فى المجتمع ضرورة

 من المهم هنا أن تتضمن خطط التنمية عمليات واسعة للإصلاح الاجتماعي التى تضمن بطبيعة الحال إصلاح الثلث المشوه في المجتمع وتحويله إلى طاقة إنتاجية عالية .. مع الابتعاد الكامل عن استخدام العنف والتهميش وإشعار الأشخاص المراد تحويلهم بالقهر .. فبحسب كلام بن خالدون” : ‏الشعوب إذا شعرت بالقهر ساءت أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى الغريزة ولقمة العيش ..!

 وهذا لا يعنى طبعاً أن نشارك هذه الفئة غير الواعية أوهامها حتى نضمن استمالتها للثلث الصالح من أبناء الشعب  كما يقول الفيلسوف “نيتشة ”  .. ولا نتعمد عدم الشفافية وإخفاء الحقائق ونُكرِس فكرة أن الذين يقولون الحقيقة يرحلون مبكراً .. بل ونلتزم بالشفافية والوضوح في كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية،  ولا نتخذ الحذر إلا فيما يهُم  قضايا ” الأمن القومي ” للمجتمعات والدول..  فالأمن القومي للبلاد هو  ” الخط الأحمر ”  الذى لا يجب أن يغازله أي فصيل أو يقترب من حدود فهو خط الأمان الأول لبقاء المجتمع على القيد الدولي .

فالفئات غير الواعية عادة ما تُحب وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام… فهي دائماً تصف نفسها بأنها ” غارقة ”  في الأزمات والكوارث، والتي في تصوري هم من صنعوها أو على الأقل شاركوا في صناعتها ولا  يملكون إرادة الحقيقية لمواجهتها أو الخروج منها  .. فالغرق مثلاً  هنا لا يعنى السقوط في الماء..  فلا أحد يصف السمكة بأنها غارقة ، لكن تغرق  السمكة إذا تُرِكت في الهواء..  فالغرق يا صديقي يحدث حين تسقط في  بيئة لا تشبهك أو في مكان  لا يليق بك أو تليق به .. ! ونكمل في مقالنا القادم ..

The post متلازمة الإصلاح والتنمية.. مخاوف الغرق وآليات النجاة (3) appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6687
 متلازمة الإصلاح والتنمية.. ” الراكب المجاني ” (2) https://draya-eg.org/2023/04/12/%d9%85%d8%aa%d9%84%d8%a7%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%a7%d9%83%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ac%d8%a7%d9%86%d9%8a-2/ Wed, 12 Apr 2023 21:32:58 +0000 https://draya-eg.org/?p=6626 بقلم أ.د/صلاح هاشم تكلمنا في مقالتنا السابقة عن كيف يمكن أن يلعب غياب الفكر الاجتماعي في استبدال الشعوب بالجماهير التى عادة ما تتسم بالسطحية والاندفاع خلف غرائزها ولا يحكمها منطق سليم ويسهل توجيهها وقيادتها، حتى وإن كان ضد الدولة نفسها؛ مما يبرر حتمية تدشين نظريات جديدة في الفكر الاجتماعي تُسهم في إعادة إنتاج شعوب وطنية …

The post  متلازمة الإصلاح والتنمية.. ” الراكب المجاني ” (2) appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم أ.د/صلاح هاشم

تكلمنا في مقالتنا السابقة عن كيف يمكن أن يلعب غياب الفكر الاجتماعي في استبدال الشعوب بالجماهير التى عادة ما تتسم بالسطحية والاندفاع خلف غرائزها ولا يحكمها منطق سليم ويسهل توجيهها وقيادتها، حتى وإن كان ضد الدولة نفسها؛ مما يبرر حتمية تدشين نظريات جديدة في الفكر الاجتماعي تُسهم في إعادة إنتاج شعوب وطنية قادرة على بناء حضارات جديدة في ضوء معطيات العصر الحديث .

ففي الوقت الذي أصبح فيه الاستثمار في  الإنسان هو الاستثمار الناجح والأكثر ربحاً.. لا تحدثني عن ثروة بلد أهله مشحونون بالحقد والعنصرية والمناطقية والجهل والحروب، وحصر مفهوم التنمية والتطوير في البحث عن لقمة العيش أو العمل على تأمينها .. ففي الوقت الذى  أصبح فيه الإنسان يُطارد  بقوة المال ؛ باتت تطارده الظروف والأقدار بمنتهى القسوة لتكون المحصلة في النهاية هي عودة الدول خطوات متسارعة إلى الخلف ..!

فسنغافورة، البلد الذي بكى رئيسه ذات يوم، بسبب افتقار بلاده إلى مياه الشرب، يتقدم اليوم على اليابان من حيث متوسط  دخل الفرد…!!؟؟ ونيجريا التى تعد من أكثر دول العالم امتلاكاً للموارد الطبيعية وأكثرها تصديراً للبترول، أصبحت أكثر دول العالم فقراً وتراجعاً على مؤشر التنمية البشرية، وكلمة السر في ذلك هو تراجع الإنسان الذى صارا محملاً بالأعباء والصراعات والأحقاد العرقية ..!

الاستثمار فى العقل البشري هو القاطرة الآمنة للتنمية

 ففي عالمنا المعاصر باتت الشعوب المتخلفة فقط هي التي تعتمد على رصيدها في باطن الأرض كي تعيش وتتطور .. بعكس الدولة المتقدمة التى تراهن دائماً على الاستثمار في العقل البشري باعتباره القاطرة الآمنة للتنمية وحقل ثروتها الذى لا ينفد.. فأرباح شركة مثل سامسونج قد بلغت في عام واحد حوالي  327 مليار دولار.. وربما تحتاج  دول كثيرة إلى مئة عام للوصول إلى هذا الرقم من ناتجها المحلي ..!

 لقد هُزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية.. وفي أقل من خمسين عاماً انتقمت من العالم كله بالعلم والتقنية. فإذا كانت المحنة كما يقول ” فكتور ماري هوجو ” Victor-Marie Hugo تصنع الرجال، فإن رغد العيش يصنع الوحوش..! وحين  يفقد الشعب بوصلته الوطنية يدمر ممتلكاته العامة، اعتقاداً منه بأنه يدمر  ممتلكات الحكومة.. وقد شهدناً ذلك جلياً إبان أحداث 25 يناير 2011..!

نظرية “الثلث فى المائة”

إذن الإنسان هو كلمة السر وليس الحجر .. قدرة الدولة على إنتاج شعب صانع للحضارة قادر على إنتاج مستقبل آمن يتمتع فيه الإنسان بأرقى الخصائص الإنسانية من تعليم وصحة وخلافه .. ومن هنا فلا بد أن نفكر سوياً في تشريح المجتمع الإنساني .. وفق فكرة إنسانية بسيطة أطلق عليها نظرية ” الثلث في المائة” والتي تنطلق من تساؤل فلسفي مفاده ” هل المفروض أن يكون الشعب كله منتج لتصبح لدينا دولة منتجة ..؟ وهل من المفروض أن يكون الشعب كله صالح ليصبح لدينا دولة متحضرة ..؟!

فالمجتمع الإنساني في تصورنا وحسب ما فهمناه من علماء الوراثة عبارة عن ثلاثة فصائل.. كل فصيل يشكل 30 % من مجموع الشعب .. الثلث أول من الشعب يتسم بالإيجابية الشديدة والعزم ولدية إرادة قوية في الإصلاح والإنتاج ويشعر بالمسئولية الكاملة عن تطوير المجتمع ونهضته .. أما الثلث الثاني فمغاير تماماً عن الثلث الأول، حيث يتسم بالسلبية الشديدة ولديه رغبة قوية في الفساد والهدم، ويفتقد القدرة والرغبة في العمل والإنتاج والميل إلى التكاسل واللامبالاة والعيش على أكتاف الآخرين ولا يشعر بالمسئولية ولا تشغله سوى مصالحه الخاصة ومكتسباته الشخصية، حتى وإن كانت على حساب مصلحة الدولة وحاضرها ومستقبلها.، يحِنُ دائماً إلى الماضي ويشعر بالاختناق من الحاضر والاحباط وعدم الاكتراث بالمستقبل.. ومقتنع بأن الأنانية العميقة هي أساس جميع الفضائل الإنسانية.. أحب نفسك أيها الإنسان، تلك هي القاعدة الوحيدة التي يؤمن بها هذا الفصيل من الشعب وفقاً لأقوال  “فيودور دوستويفسكي” .

الراكب المجاني

 الثلث الثالث يتكون من فصيل بين بين .. استعير توصيفه من فيلسوف الحضارة ” مالك بن نبي ” حين تحدث عن ” إنسان النصف” مؤكداً إن إفساد النهضات عادة ما يكون بإنتاج إنسان النصف .. حيث عرف بن نبي ” إنسان النصف” بأنه إنسان شديد الإلحاح في طلب حقوقه، رغم أنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته، أو من ثقافة المتاح المتوفرة بين يديه،  يذهب للمدرسة كما يذهب للعمل  لا لشيء سوى إضاعة الوقت ..  وليس للتعلم ولا للإنتاج ..  لا يدرس كطالب ولا يعمل كموظف و لا يبدع في معمل ولا يبتكر في متجر ولا ينجز في مشروع  .. هو باستمرار إنسان النصف .. يقف في منطقة وسطى بين الفصيلين الآخرين ليمثل 30 % من المجموع.. ويميل إلى لعب دور  “الراكب المجاني ” الذى يفضل دائماً الجلوس على مقاعد المتفرجين على  مسرح المعركة،  ليصفق في النهاية للفائز دون أن يكسب عداوة أي الفريقين ..  وهو أسهل الفصائل الثلاثة في الجذب والاستقطاب والتأثير عليه.. ويصف نفسه دائماً بالموضوعية..!

ربما يكون هذا التصور بمثابة صورة مثالية لكافة المجتمعات الإنسانية منذ بداية العقد الاجتماعي وحتى الآن .. وأن نمو المجتمع في هذا الحالة هو نمو طبيعي يعجز عن الدخول في سباق التطور .. وحتى هذا التطور التلقائي لا يضمن بحال استمرار المجتمع وبقاءه .. !

فمادام الفصائل الثلاثة متساوية .. والمساواة هنا في الحجم المبني على الخصائص المتشابهة بين كل فصيل من الفصائل الثلاثة ” الفصيل الصالح الذى يقدم مصلحة المجتمع على نفسه والفصيل الفاسد الذى يغلب مصالحه الشخصية على المصلحة العامة للمجتمع والفصيل الثالث الذي هو إنسان النصف “.

إذن الصراع دائماً يكون بين الفصيلين الأول والثاني والذى يغلب هو الذي يسم المجتمع بسماته الخاصة .. إيجابية كانت أو سلبية .. وأقصى انتصار يمكن أن يحققه فصيل على الآخر هو أن يحول جزء منه إلى الفصيل الثالث الذي يمثله إنسان النصف أو الراكب المجاني  الذى هو الحلبة الحقيقة للصراع بين الفصيلين .. باعتباره الفصيل الأسهل في الجذب والاستقطاب ..!

والسؤال الذى يطرح نفسه كيف يمكن لفصيل أن يتغلب على الفصيلين الآخرين ليشكل السمات العامة لمجتمع وكيف يمكن للفصيل الصالح أن يحقق الغلبة ليصبح لدينا مجتمعاً صالحاً تتوافر فيه كافة مقومات النهضة .. وهو ما سوف نوضحه في مقالتنا القادمة ..

The post  متلازمة الإصلاح والتنمية.. ” الراكب المجاني ” (2) appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6626
أهمية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران https://draya-eg.org/2023/04/10/%d8%a3%d9%87%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a5%d8%b9%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a8%d9%84%d9%88%d9%85%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%8a%d8%a7%d8%b6-%d9%88%d8%b7%d9%87%d8%b1%d8%a7%d9%86/ Mon, 10 Apr 2023 21:03:21 +0000 https://draya-eg.org/?p=6621 بقلم: د/ وليد ناصر الماس يُشكل الاتفاق السعودي الإيراني المكرس لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بارقة أمل تساهم في استقرار منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وأن للرياض وطهران دور كبير في ما تعانيه المنطقة الشرق أوسطية من حالة غير مستقرة، باعتبارهما دولتين كبيرتين صاحبتا نفوذ اقتصادي وسياسي، علاوة عن دورهما المذهبي وتزعمهما لأكبر طائفتين إسلاميتين …

The post أهمية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: د/ وليد ناصر الماس

يُشكل الاتفاق السعودي الإيراني المكرس لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بارقة أمل تساهم في استقرار منطقة الشرق الأوسط، لا سيما وأن للرياض وطهران دور كبير في ما تعانيه المنطقة الشرق أوسطية من حالة غير مستقرة، باعتبارهما دولتين كبيرتين صاحبتا نفوذ اقتصادي وسياسي، علاوة عن دورهما المذهبي وتزعمهما لأكبر طائفتين إسلاميتين (سنية وشيعية)، في ظل واقع اجتماعي بالغ التعقيد، تلعب فيه المذهبية دورا بالغا.

تُعد السعودية وإيران من ضمن أغنى عشرة بلدان في العالم، من حيث الخامات والموارد الطبيعية، وترتبط كليهما بعلاقات سياسية واقتصادية متينة مع الصين، حيث يتطلب إنجاح مشروع الصين الاقتصادي وتحقيق المصالح المشتركة للجانبين الصيني ودول منطقة الشرق الأوسط، استقرار المنطقة وخروجها من وضعية الصراع.

وهنا يُمكن إبراز عوامل كثيرة في إنجاح هذا الاتفاق من ضمنها:
طموحات البلدين لتجاوز الكثير من العقبات الاقتصادية والأمنية، والتفكير الجدي بتوجيه الموارد العامة نحو أشكال التنمية.
– حاجة البلدين لمشاريع اقتصادية ضخمة بالشراكة مع الصين، بالاستفادة الفاعلة من الموقع الجغرافي والموارد.
– الحاجة للتعاون الثنائي لتجاوز الكثير من القضايا والخلافات العالقة، في الكثير من بلدان المنطقة.

– رعاية بكين للاتفاق مما قد يوفر ضمانة رئيسية لنجاحه، علما بأن العلاقات الصينية الإيرانية قوية وتوفر فرصة لنجاح الوساطة بين الجانبين السعودى والإيراني. 

– وجود رغبة إيرانية شعبية في فتح صفحة جديدة مع دول الخليج.

لا شك أن عودة العلاقات السعودية الإيرانية تُشكل مرحلة جديدة للتعاون فى منطقة الشرق الأوسط، من شأنها أن تُمهد لإعادة ترتيب المنطقة بشكل يحقق الاستقرار ويدفع بعجلة التنمية، وذلك وسط أزمات دولية كبرى، وتحديات جسيمة تتطلب الكثير من العمل المتواصل من أجل توسيع مجالات التعاون والتنسيق المشترك. 

The post أهمية إعادة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6621
 متلازمة الإصلاح والتنمية في مصر (1)..! https://draya-eg.org/2023/04/05/%d9%85%d8%aa%d9%84%d8%a7%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b5%d9%84%d8%a7%d8%ad-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b5%d8%b1/ Wed, 05 Apr 2023 20:23:12 +0000 https://draya-eg.org/?p=6588 بقلم: أ.د/ صلاح هاشم على مدار سنوات طويلة مرت على مصر وتحديدا منذ النصف الأول من القرن العشرين الذى شهد ظهور أعلام في الفكر الاجتماعي والتنويري والإصلاحي المعتدل، الذين توغلت أفكارهم وآرائهم في عقل ووجدان المصرىين، بل تخطت الحدود إلى كثير من دول العالم، فلا نستطيع أن ننسى رواد الفكر الإنساني الذين أسسوا لمدارس إصلاحية …

The post  متلازمة الإصلاح والتنمية في مصر (1)..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: أ.د/ صلاح هاشم

على مدار سنوات طويلة مرت على مصر وتحديدا منذ النصف الأول من القرن العشرين الذى شهد ظهور أعلام في الفكر الاجتماعي والتنويري والإصلاحي المعتدل، الذين توغلت أفكارهم وآرائهم في عقل ووجدان المصرىين، بل تخطت الحدود إلى كثير من دول العالم، فلا نستطيع أن ننسى رواد الفكر الإنساني الذين أسسوا لمدارس إصلاحية عديدة ليس في مصر وحدها بل وفي كثير من دول العالم أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ جمال الدين الأفغاني وسعد وفتحي زغلول والأستاذ قاسم أمين وغيرهم من رواد الوعي في العصر الحديث .. وأعتقد أن هذه الفترة تحديداً كانت مصر دولة رائدة في قيادة التغيير والوعي إقليماً ودولياً، وصاحبة قرار سياسي واضح ومحترم وكانت داعمة اقتصادياً لمختلف الدول العربية وصدرت للدنيا كلها الثقافة والفن والإبداع والإصلاح والسياسة.

  وربما شهدت الفترة منذ بداية الخمسينيات وحتى نهاية الستينيات محاولات وتجارب ربما لم تكن مكتملة في الإصلاح الاجتماعي، لكن معظمها أصابته حالة من الانطفاء والركود في فترة السبعينيات، متزامنة مع عمليات الإصلاح الاقتصادي المشوهة، وتجربة الانفتاح غير المخطط لها وغير المدروس توابعها وتداعياتها في نفس الوقت، والتي كان من أهمها تراجع الخصائص العامة للمواطن المصرى والانتقال بالفكر الإنساني العام من العمق إلى السطحية والابتعاد به من تقدير العمل والإنتاج واحترام كل ما هو مصري وأصيل إلى ثقافة الاستهلاك غير الآمن، مع تقديس المنتج الأجنبي!

 ولعل هذه كانت نقطة بداية التراجع ليس في الاقتصاد وحده ولكن في السمات العامة للمنتج الإنساني المصري، فلا أعتقد أننا نستطيع بحال الفصل بين ما هو إنساني وما هو اقتصادي أو إنتاجي بشكل عام .. فعادة ما يُلازم تراجع الخصائص العامة للمنتج الإنساني أي المواطن تراجع في الخصائص العامة للمنتج الاقتصادي وربما العكس والذى يمكن أن نسميه ” متلازمة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي”..!

نظرية فى الإصلاح الاجتماعي والتنوير

كل ذلك دفعني منذ سنوات إلى التفكير في نظرية في الإصلاح الاجتماعي والتنوير تقوم على تحليل الأوضاع الإنسانية بشكل عام وتخرج بمجموعة من المؤشرات ربما تمكننا من فهم أوسع للمجال الاجتماعي وكيفية التعامل مع العقلية الإنسانية بشكل عام من خلال البحث في تكوين الإنسان حسب فلسفة الطبيعة، ونجيب على تساؤل عام : كيف للمجتمعات والشعوب أن تتقدم؟ وكيف يمكن زيادة المنتج البشرى وتطويره بسلام؟ وكيف يمكن توجيهه لخدمة الأهداف العامة للدول والتي تتلخص حسب أقوال ” سقراط ” و “مكيافيلي” في الهيمنة والقوة والاستقرار بوجه عام .. وكانت نقطة الانطلاق في النظرية هى الفكر باعتباره الركيزة الأساسية فى التنوير والإصلاح بوجه عام .. وكما قال  ” إميل سيوران ”  في كتابه “المياه كلها بلون الغرق “حين فشلنا في خلق إنسان يُفكر، فشلنا بطبيعة الحال في تكوين شعب، بل تشكل لدينا جمهور، جمهور مُصفق، وجمهور لاعن، يُصفق مرة، ويلعن مرة .. لكنه لا يُفكر !

شعوب وجماهير 

وبالطبع هناك فارق كبير بين الشعوب التى تشارك  الدول والحكومات في بناء حضارتها والتي تتسم أفكارها بالعمق والرصانة والابتكار ولديها بناء عقلي وسيكولوجي مغاير تماماً للبناء الفكري والسيكولوجي للجماهير التى تتسم بالسطحية وتتسم أفكارها واتجاهاتها بعدم الثبات، الأمر الذى دفع علماء الاتصال بوصف الجماهير بأنها كالمرأة اللعوب تهوى دائما من يُغازلها، بعكس الشعوب التى هى بالأساس منبع الحكمة والحضارة ومصدر الإلهام والتطوير.

الإصلاح يبدأ من الشعب

إذن الانطلاقة هنا فى الإصلاح لابد أن تكون من الشعب الذى يُعد الوعاء الذى تنتخب منه الحكومات والقيادات، وكلما كان وعاءً نظيفاً راقياً كلما كانت قياداته راقية، وكلما كان وعاءً فاسداً كلما كانت حكوماته فاسدة .. إذن ليس منطقي أن نهتم بإصلاح الحكومات تاركين الشعب بلا ضابط يحكمه نزاهتها .. فالعمل على إصلاح الحكومات دون الشعوب مجرد جهد مهدر لا طائل منه سوى الانزلاق إلى القاع والتراجع والتخلف والفساد!

والسؤال هنا يتعلق بإصلاح الشعوب وكيف يمكن أن يكون وماهي الصورة المُثلي للشعوب الناهضة والآخذة في التحضر ؟.. وماهي آليات هذا الإصلاح؟ .. وهل يمكن اختزال الإصلاح في الإصلاح الاقتصادى أو الديني فقط ؟

أتصور أن مفهوم الإصلاح أعمق وأكبر وأن الإصلاح الاجتماعي يجب أن يكون الأساس في عملية التغيير والتطوير وهو ما سوف نركز عليه في بناء نظريتنا التى سوف تتشكل عبر مقالتنا القادمة .

 

The post  متلازمة الإصلاح والتنمية في مصر (1)..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6588
الثقافة والاقتصاد..نحو علاقة جديدة وتنمية متبادلة https://draya-eg.org/2023/03/23/%d8%a7%d9%84%d8%ab%d9%82%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af-%d9%86%d8%ad%d9%88-%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a9-%d8%ac%d8%af%d9%8a%d8%af%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%85%d8%aa%d8%a8%d8%a7%d8%af%d9%84%d8%a9/ Thu, 23 Mar 2023 22:16:08 +0000 https://draya-eg.org/?p=6561 بقلم: د/ هيثم الحاج علي تقوم الدساتير العربية خاصة في نصوصها التي تتعلق بالثقافة على فكرة نبيلة في جوهرها، فحواها أن الثقافة خدمة تحتاج إلى كامل رعاية الدول والأنظمة، وهي الفكرة التي تحكمت في بناء المؤسسات الحكومية التي تتعامل في الثقافة، وذلك ما يمكن أن نضرب عليه أمثلة من الدستور المصري، حيث تشير المادة 48 …

The post الثقافة والاقتصاد..نحو علاقة جديدة وتنمية متبادلة appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: د/ هيثم الحاج علي

تقوم الدساتير العربية خاصة في نصوصها التي تتعلق بالثقافة على فكرة نبيلة في جوهرها، فحواها أن الثقافة خدمة تحتاج إلى كامل رعاية الدول والأنظمة، وهي الفكرة التي تحكمت في بناء المؤسسات الحكومية التي تتعامل في الثقافة، وذلك ما يمكن أن نضرب عليه أمثلة من الدستور المصري، حيث تشير المادة 48 إلى أن: “الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة وتلتزم بدعمه وبإتاحة المواد الثقافية بجميع أنواعها لمختلف فئات الشعب، دون تمييز”.

وهو الأمر الذي يتكرر في دستور الكويت، حيث تنص المادة 14على أن: “ترعى الدولة العلوم والآداب والفنون وتشجع البحث العلمي”.

والملاحظ في الخطاب السائد هاهنا، وفي غير هذين المثالين من الدساتير أن فكرة الكفالة والرعاية هي السائدة، وهي الفكرة التي تجعل من المنتج الثقافي قاصرا يستحق رعاية الدول، وهو الأمر الذي تتحكم فيه ظروف كثيرة، منها الاجتماعي والسياسي والتاريخي والاقتصادي عبر عصور ممتدة، وهي الظروف التي تغير كثير منها الآن بما يحتم علينا التوقف عند هذه الرؤية، وإعادة تمحيصها، وبناء رؤية جديدة للعلاقة بين المؤسسات الحكومية، والثقافة ومنتجيها ومتلقيها.

  • في مفهوم الثقافة:

لا يمكن حصر مفهوم الثقافة – كما هو سائد على المستوى الشعبي والإعلامي – فقط في كم المعلومات التي يمكن للفرد أن يستوعبها، أو يستظهرها كما تحاول وسائل الإعلام أن تروج، ولا حتى في الإبداع بمختلف فنونه، ولا حتى في المعرفة أو التفلسف.

 الثقافة في الأساس مفهوم يتكئ على وعي الإنسان بذاته، وتطويره لهذا الوعي لكي يكون وعيا ذا وجهة نظر خاصة للعالم، وهو الأمر الذي تجلى في تعريف لسان العرب بالثقافة حين أشار إلى أن: التعبير (“ثقف نفسه” أي صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري, وقد اشتقت هذه الكلمة منه، حيث إن المثقف يقوّم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه).

 ولعل الاشتقاق الإنجليزي من مادة لغوية لها علاقة بالزراعة غير بعيد عن هذا المعنى، وإن توسع التعريف بها لتشمل الفنون وغيرها من مظاهر الإنجاز الفكري الإنساني، في إشارة إلى أهمية الوعي ودوام الممارسة للوصول إلى نتيجة واضحة ليست مجرد نتيجة لصدفة ما، وهو المفهوم الذي يمكن أن ينسحب على المجتمع – ولا يقف عند حدود وعي الفرد – حين يمكن النظر إلى ثقافة المجتمع بوصفها: الأسس المعرفية والإبداعية التي يمكن للمجتمع أن يرتكز عليها حين يحاول تقويم نفسه، وحين يبدأ في التعبير عن هويته الخاصة.

من ناحية أخرى فإن اقتران الثقافة بالمعرفة يتم على مستويات ثلاث هي: إنتاج المعرفة، ونقل المعرفة، وتلقي المعرفة، وهو الأمر الذي يمكن حصر المثقف عن طريقه في سمة منتج المعرفة، وهو المستوى الذي يمثل ذروة الثقافة، أو من يمكن اعتبار المنتمي إليه منتميا إلى النخبة الثقافية، أيا كان نوع المعرفة التي ينتجها أدبية كانت أو علمية.

غير أنه من الضروري هنا الإلماح إلى أنه – في مجال حديثنا – تزول الحدود بين الفنون الإبداعية الأدبية والفكرية والقولية من ناحية، وبين الصناعات الثقافية الرسمية منها والشعبية، ليتسع مفهوم الثقافة هنا ليشمل هذه الجوانب كافة.

  • في معنى الثقافة العربية والنظر إليها:

وقد ظلت الثقافة العربية ركنا أصيلا من أركان المجتمع العربي منذ بدء العلم به والتأريخ له، وقد كان العرب في عصورهم الأولى يعلون من شأن الثقافة والعلم والإبداع حسبما أتاحت لهم ظروفهم التاريخية، إلى أن هيأ الله لهم الإسلام الذي وحد رؤاهم ورسخ هويتهم الخاصة، ودشن دولتهم التي كان قوامها الأساسي متمثلا في المعرفة التي أتاحت لهم بناء حضارتهم ووعيهم الخاص بذواتهم.

وإذا كان من الممكن النظر إلى بعض صنوف الإبداع بوصفها معبرة عن الهوية العربية الجمعية – كالشعر مثلا – حيث الشعر ديوان العرب الجامع لأمثالهم وأيامهم وكافة مناحي حياتهم، فإن التاريخ يحفظ لنا من المقولات ما يعبر عن عدم حصر الوعي بالجمال على الشعر مثل قول المعري :

فالحسن يظهر في شيئين رونقه       بيت من الشعر أو بيت من الشعر

مثل هذه المقولات تجعل من النظر إلى صنوف الإبداع المختلفة بوصفها ركنا أصيلا في معرفة العرب بذواتهم، بل ركنا مهما من أركان حياتهم بما في ذلك الدعاية للقبيلة أو الحزب السياسي، غير أن التطور الواضح في النظر إلى مثل تلك الفنون قد وافق قيام الدولة الأموية، ومن بعدها العباسية حين صار الشعر مصدرا للتكسب، عندما صار كبار الشعراء يشتغلون بالشعر في بلاط الخلفاء والأمراء، وهو الأمر الذي توافق مع اهتمام كبير بالعلوم والترجمة حتى صارت وظائف يدر عليها الأمراء والحكام من أموالهم ومن بيوت المال، في تجل أول للمردود الاقتصادي على الأفراد المشتغلين بالثقافة، وإن اقتصرت الفائدة على مثل هذه الحالات ولم تتجل في حالة اقتصادية عامة.

وقد بقيت الثقافة داخل هذا الإطار الذي تقلص مع تفكك الدولة العربية، إلى أن صارت تعامل المبدعين بوصفهم أبناء هامش تعبيري خارج على الأنساق المجتمعية العربية، وهو الأمر الذي توافق مع انهيار أسس الحضارة العربية في العصور الوسطى، كما توافق مع تضييق مفهوم الثقافة لتصبح محصورة في الفنون القولية دونما النظر إلى مجموعات من الفنون والصناعات التي تعبر بالضرورة عن الهوية، وهو – في ظني – السبب الأساسي في اعتبار الثقافة مجرد نتاجات لتأملات خيالية بعيدة عن الواقع، وهي الرؤية العامة لدى الشعوب العربية منذ بدايات العصور الحديثة.

للثقافة إذن دورها المعتبر والمتفق عليه في بناء الحضارات، وفي ترسيخ هوية المجتمعات والتعبير عنها، كما أنها تصبح في بعض الأحيان صنعة المثقفين والمبدعين، وربما يسهم الظرف التاريخي في جعل هذه الصنعة تتحول إلى صناعة بالمفهوم الاقتصادي، كما حدث مثلا في صناعة السينما في مصر منذ الثلث الأول من القرن العشرين، غير أنها تبقى صناعة ذات طبيعة خاصة يظل نظر المجتمع لها نابعا من كونها – في نظره بالطبع – تقبع في درجة أدنى من الصناعات الحقيقية التي تنتج سلعا استهلاكية أو معمرة.

  • الثقافة والدعم الاقتصادي الحكومي:

من هنا تم التعامل على المستوى الاقتصادي مع مثل هذه الصناعات بوصفها خدمات يجب على الدولة أن تدعمها كما كان يفعل الخلفاء والحكام مع الشعراء والعلماء، مرة لتزيين الصورة ومرة لأهمية غامضة تجعلها بالنسبة إليهم واجبا ربما يتعاملون معه على أنه واجب ثقيل أحيانا ومزعج أحيانا، وواجب غير مبرر في كثير من الأحيان إلا تبعا لتلك الأهمية الغامضة والثابتة.

فكانت تجربة مصر في دعم صناعة السينما عن طريق إنشاء مؤسسة السينما، ثم عن طريق إنشاء وزارة للثقافة بدت وظيفتها الأساسية تعويض المجتمع عن فترات طويلة من التهميش الثقافي وإن كان لها أهداف أخرى تمثلت في التوجيه والإرشاد رغبة في خلق نمط المواطن الواعي الصالح الــ (مثقف)، وهي الوزارة التي نمت عبر نصف قرن تقريبا لتشمل مجموعة من القطاعات التي تعمل في كل مجالات العمل الثقافي من مسرح وسينما وأوبرا وفنون تشكيلية ونشر وإنتاج فني، بالإضافة إلى التخطيط الثقافي والعمل الجماهيري، ولتصبح بذلك نموذجا للعمل الحكومي في مجال الثقافة يتم الاحتذاء به في باقي الدول العربية، وإن كانت بصور مختلفة تختلف تبعا للأولويات التي تضعها لنفسها كل دولة، وعلى اختلاف درجات الاهتمام من دولة إلى أخرى، بل ومن وقت إلى آخر تبعا لظروف تاريخية وجغرافية واقتصادية وثقافية كذلك.

لكن التغير الأهم في النظرة العالمية إلى الثقافة بوصفها صناعة حقيقية مكتملة العناصر يمكنها أن تُدر دخلا قوميا للدول بالإضافة إلى كونها خدمة، لكن الأهم في تلك المناحي كلها هو اعتمادها على الفرد بوصفه العنصر الأهم في تلك الصناعة، بوصفه منتجا وبصفته متلقيا مستهدفا.

لدينا إذن إشكال واضح يتجلى في اختلاف النظر إلى إمكاناتنا الثقافية واحتمالات تطوير طرق الاستفادة منها، ليس فقط على مستوى الوعي بالذات والهوية، ولكن كذلك على مستوى تحقيق فوائد متنوعة منها الفوائد الاقتصادية للثقافة.

  • الثقافة والتنمية الاقتصادية:

تتعامل الشعوب والحكومات العربية مع الثقافة كما أسلفنا بوصفها خدمة تقدمها الحكومات لشعوبها، وتقوم بدعمها لتكون بذلك عالة على ميزانيات الحكومات وهي تقع في الغالب في ذيل الاهتمامات المالية لواضعي الميزانيات الحكومية العربية، على اعتبار أن الحاجة إليها ليست طارئة مثل غيرها من المصارف، وهو الأمر الذي أدى إلى تباطؤ معدلات نمو المجالات الثقافية في البلدان العربية، أو معظمها على الأقل، واعتمادها في كثير من الأحيان على قدرات المثقفين والمبدعين أنفسهم، ودأبهم على العمل في مجالها، وإمكاناتهم الخاصة في إقناع الحكام أو أصحاب الأموال بأهمية تمويل الأنشطة الثقافية.

غير أنه في عديد من بلدان العالم اتخذت الثقافة موقعا مهما بوصفها موردا من موارد الدخل القومي، فعلى سبيل المثال تعد الصناعات الثقافية في المملكة المتحدة، التي ضربت مثلا في استغلال الموارد الثقافية وتنميتها، حيث بلغت عوائد الصناعات الإبداعية لديها في عام 2001 حوالي 112.5 مليار جنيه استرليني، ومثلت صادراتها من الصناعات نفسها حوالي 10.3 مليار جنيه استرليني بما يعادل حوالي 5% من الناتج القومي الإجمالي للمملكة المتحدة.

وليس المطلوب بالطبع الاستنساخ الكامل للتجربة الإنجليزية، وإن وجبت الاستفادة من مفاهيمها الأساسية المعتمدة على تنمية الصناعات الثقافية، بوصفها خالقة لفرص العمل، ومحققة لتفرد الهوية، بالإضافة إلى دورها الاقتصادي الواضح الذي يؤكد إمكان الاعتماد على المنتج الثقافي بوصفه منتجا مجتمعيا كامل الوجود على خريطة الاقتصاد القومي.

ويمكن لنا اقتراح مجموعة من المحاور التي تستطيع من خلالها الثقافة القيام بهذا الدور والتي يمكن أن يكون من أهمها:

أولا: التحول من نمط الراعي الداعم إلى نمط المنسق المتيح

قامت المؤسسات الثقافية الحكومية العربية منذ بداية نشأتها على فكرة التوجيه والإرشاد، وربما ارتبط ذلك بطبيعة الصحافة العربية منذ بداياتها في أواخر القرن التاسع عشر حين كانت تتوجه بالخطاب إلى مجتمعات تعاني في الأساس من الأمية واعتمدت في توصيل خطابها على المتعلمين الذين يقرؤون للآخرين، وهو الأمر الذي تلازم مع خطاب توجيه اجتماعي يحاول الحفاظ على قيم الطبقة الوسطى الناشئة في ذلك الحين.

لكن التحولات التي طرأت على أنماط الثقافة العالمية منذ القرن العشرين، منذ بداية ظهور أنماط الثقافة المسموعة في الإذاعة، ثم المرئية من خلال السينما والتليفزيون، ثم مع الانفتاح الطارئ بين الثقافات مع ظهور الأقمار الصناعية ثم شبكة الإنترنت، كل هذه التحولات غيرت من طبيعة الخط الفوقي الواصل بين مرسل الرسالة الثقافية ومستقبلها، بحيث صارت الرسالة تفاعلية مفتوحة على خطابات متعددة، وصار المتلقي ذا تفكير نقدي لا يستقبل الرسالة كما هي.

كل ذلك يحتم على تلك المؤسسات الثقافية أن تغير من طبيعة بنيتها الفكرية والعملية لتتحول من التوجيه والإرشاد إلى الإتاحة والتنوع، وهو ما يفرض عليها ألا تمتلك أدوات الإنتاج الثقافي التي سوف تصبح قاصرة عن أداء مهامها نظرا لطبيعة التنافسات الفردية، وتبدأ في تكوين غرض آخر يقوم على أساس كونها منسقة للمكونات الثقافية الموجودة فعلا في المجتمع، ذلك التنسيق الإيجابي الذي يهدف إلى الحفاظ على المكون الثقافي كما هو دون تدخل بوجهة نظر سياسية أو حتى اجتماعية، كما يهدف إلى توصيل المكون الثقافي من منتجه إلى متلقيه.

إن انسحاب المؤسسات بهذه الصورة من عملية الإنتاج الثقافي يضمن عدة أشياء أهمها عدم تغيير المنتج الثقافي لصالح أي توجه طارئ، وبقاؤه أصيلا معبرا عن الهوية الثقافية لمنتجه، كما أنه من ناحية أخرى يعد مواجهة حقيقية، وإن بدت صعوباتها شديدة الوطأة، لأفكار هي مطروحة بالفعل على الفضاء السيبراني، وتصل لمتلقيها بسهولة شديدة دون أي تدخل، وخير مثال على ذلك أن أي منع لمنتج ثقافي هو الوسيلة الأكثر نجاحا لانتشار هذا المنتج.

من هنا يأتي وجوب التحول في الرؤى الحكومية لتستطيع القيام بدورها في الرعاية المطلوبة للمكونات الثقافية ومنتجيها ولتقدر بالفعل على توفير ضمانات وصول هذه المكونات إلى متلقيها الطبيعي والمفترض، وهذا التركيز على دور المنسق سيتيح الفرصة لهذه المؤسسات لتوفير طاقاتها الموجهة إلى الإنتاج لكي يتم الاستفادة بها كاملة في أداء دورها الطبيعي المنوط بها، وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الرؤية ستؤدي إلى التخلي عن الرؤى المركزية التي توافقت مع دور المنتج لصالح الهوامش والحدود، مما سيؤدي إلى جعل المكونات الثقافية منتجا أساسيا في المجتمع يخلق لأجزائه مصالحهم الخاصة فيه، وينمي الشعور بالانتماء إليه نتيجة لتنامي الإحساس بالاهتمام والرفاهية.

ثانيا: توسيع أفق التعاون المتكافئ مع الأفراد ومنظمات المجتمع المدني

يرتبط بالرؤية السابقة ما يمكن اعتباره تعاونا خلاقا بين المؤسسة وكل ما يمكن تصنيفه بأنه منتج للثقافة أو المعرفة، وإتاحة الفرص لهولاء الأفراد أن يعملوا بحرية تُتيح لهم الانطلاق في أفق الإبداع، وهو الدور الأصلي الذي كان من المفترض أن تكون عليه المؤسسات، كما أن هذه الرؤية تتفق مع التطور الحادث في نمط الثقافة العالمي الناتج عن وسائط الاتصال الحديثة التي ركزت على فردانية الثقافة كنتاج من نواتج العولمة ووسائطها، كما أنها تضمن كذلك الحفاظ على هوية المجتمع لا عن طريق تجميدها، ولكن عن طريق المرونة في التعامل مع مكوناتها.

وعلى نفس الدرجة من الوجوب، يكون على المؤسسات البعد عن محاولات تدجين المثقف ومنتج المعرفة والإبداع لصالحها، بل يكون الغرض الأساسي من ذلك التعاون هو الإتاحة للاتجاه والاتجاه المختلف، والحفاظ على المثقف وشخصيته التي أتاحت له إنتاج مشروعه الخاص، وربما يكون لنا في المناظرات العلمية والفكرية التي شاعت في العصر العباسي بوصفها معبرا أصيلا عن عضوية هذه المعرفة، وهو ما بدا في اهتمام العامة بها على اختلاف مناحيها، كما أنها من ناحية أخرى كان لها إسهامها الكبير في الحضارة العربية عن طريق تأصيل فكرة قبول الاختلاف، وهو ما ميز تلك الحضارة وعبر عن قوتها في ذلك العصر.

ومن ناحية أخرى وعلى الدرجة نفسها من الأهمية فإن ظهور الكيانات العاملة بالثقافة والمهتمة بها مع استقلالها عن المؤسسة يعد واحدا من أهم مظاهر الثقافة الحديثة، وهذه الكيانات بعضها احترافي مثل شركات الإنتاج السينمائي والدرامي والغنائي والمسرحي، ودور النشر الخاصة، والجرائد المستقلة، وهذا النوع يهدف ضمن أهدافه إلى تحقيق ربح يُمكن هذه الكيانات من أداء الرسالة المنوطة بها، وبعضها الآخر لا يهدف للربح، ويعتمد على الاهتمام والتطوع من قبل الأفراد المهتمين بمجالاتها.

وأيا كان الأمر، فإن أيا من النوعين يحتاج إلى العمل على تمهيد الطريق أمامه للعمل، سواء عن طريق تعديل القوانين واللوائح الحكومية لتصبح أكثر مرونة في التعامل مع مجالات أنشطتها، مثل قوانين الجمارك مثلا، بحيث تزيد المرونة في التعامل مع مكونات إنتاج الكتب مثلا من ورق وأدوات طباعة، ناهيك عن الصناعات الأخرى، وعلى الدرجة نفسها قوانين الضرائب وغيرها، مما يتحتم تعديله طبقا لهذه الرؤية، بحيث تكون المؤسسات شريكا متعاونا في هذه الصناعات، بما لا يؤثر على توجهاتها، وبما يحفظ التكافؤ في العلاقة بين تلك الكيانات والمؤسسات الرسمية، وهو الأمر الضروري للحفاظ على قوة هذه المنتجات ومنافستها في أسواق الصناعات الثقافية تبعا للاعتماد على رؤى مبدعة واحترافية يتم تذليل العقبات وإزالتها من طريقها.

ثالثا: الاعتماد على المعلومات في إنشاء خطط دعم بالرؤية الجديدة

تمتلك مجتمعاتنا العربية العديد من العناصر التي تعد مكونات ثقافية، منها ما يعد ثقافيا خالصا، ومنها ما يدخل في باب الصناعات، كما تحتوي على مهارات فردية بعضها يحتاج إلى تدريب، أو إلى أنواع مختلفة من الدعم، وهو ما يمكن أن تقدمه المؤسسات الحكومية، شريطة توافر معلومات تتيح لهذه المؤسسات التخطيط الجيد للحالة الثقافية.

غير أن العمل الثقافي العربي يعاني عموما من مشكلة نقص المعلومات، حيث يعد من الصعوبة بمكان الحديث بدقة عن مكونات المشهد الثقافي العربي أو في أي من دوله، وحيث لا توجد إحصاءات دقيقة عما يحدث داخل ذلك المشهد، بل مجرد رؤى وإحصاءات عامة، لا يمكنها أن تكون أساسا حقيقيا للتنمية.

 وإذا كان التطور المعرفي الأساسي في القرن العشرين يتمثل في التحول إلى المعرفة الرقمية بما تمثله من فيض معلوماتي ناتج عن التراكمات الأساسية المتعاقبة على أنماط المعارف السابقة، كما هو ناتج عن سهولة الاتصال بين مصادر المعلومات ومتلقيها، بما يجعلنا في قلب عصر المعلومات، فإن كل ذلك يمكنه أن يمنحنا رؤية واضحة عن القصور الذي تعاني منه نماذج العمل العربية حين تفتقر إلى المعلومات الدقيقة عن مجالاتها، لا سيما فيما يتعلق بالثقافة.

وعلى ذلك فإن الإجراء الأكثر أهمية يتمثل فيما يمكن أن نطلق عليه “خريطة الحالة الثقافية”، وهي خريطة تفاعلية – أو يجب أن تكون كذلك – تعتمد على بيانات إحصائية دقيقة تحصر فعليا ما يوجد من منتجات ثقافية في بقاع – مدن وقرى – كل دولة، وتستغل فيها كل الإمكانات الإحصائية للدولة بما يمكنها من تحقيق الإحصاء الدقيق لكل هذه المكونات، ووضعها جميعا قيد الاسترجاع اعتمادا على البقع الجغرافية، بحيث يمكن رؤية كل الإمكانات الثقافية في كل مكان على حدة.

ومع توسيع مفهوم الثقافة ليشمل كل ما يمكن اعتباره نتاجا إبداعيا أو فكريا، فإن هذه الخريطة ستكون معبرة عن مجموعة كبيرة من العناصر، وتكون الخطوة التالية هي تقسيمها حسب فئاتها، إبداعا قوليا أو فكريا أو حركيا أو بصريا أو يدويا، ثم تقسيمها بعد ذلك حسب الاحتياج الفعلي لكل مكون، فمنهم من سوف يحتاج إلى تدريب، ومنهم من يحتاج إلى دعم فني وتقني، ومنهم يحتاج إلى تدريب لتطوير فنه، ومنهم من يحتاج إلى تسويق لمنتجه، ومنهم من يحتاج إلى دعم مادي.

رابعا: الثقافة التفاعلية والرقمية ومظلة النشر العربية

في مواجهة العولمة وطغيان النزعات الفردية في الثقافة العالمية، حاولت الكيانات الاقتصادية مواجهة الذوبان والتفتيت السياسي بالاتحاد الاقتصادي، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور كيانات اقتصادية عملاقة نتجت عن اتحاد كيانات أصغر، في استراتيجية تحاول البقاء والنمو في ظل تغيرات متسارعة.

ومن ناحية أخرى فإن صناعة النشر، في العالم كله أصبحت تعاني من مجموعة من الظروف التي أصبحت تؤثر بالسلب حتما على بقائها، ومن ثم نموها، ومن هذه الظروف عوامل التضخم الاقتصادي المؤثرة على الصناعات عموما، وارتفاع أسعار الورق والأحبار وسائر الخامات التي تستخدم في عملية الطباعة، التي هي أساس النشر، وإذا أضفنا إلى ذلك عوامل القرصنة على حقوق الملكية الفكرية، فإننا نكون أمام صناعة مُهددة بالفناء خاصة مع انتشار التعاملات الرقمية على المعرفة، خاصة بين الشباب الذين يمثلون القوام الأهم لكتلة القراء.

كل ذلك وغيره من العوامل يجعلنا نوقن بأهمية التصدي للنشر الرقمي، لا كوسيط بديل لنقل المعرفة ولكن بوصفه وسيطا أساسيا في العصر الحديث يجب علينا اقتحام مجاله، وهو الوسيط الذي تم السبق إليه من خلال شركات غربية وشرقية، وبقيت الكيانات العربية تقف أمامه محاولة تحسس طريقها في وجل شديد الظهور، حتى بات أمرا لا فكاك منه فبدأت في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين تتحسس طريقها إليه في توجس من أثره على أرباحها من النشر الورقي.

وإذا كان المحتوى الرقمي العربي على شبكة الإنترنت يشكل ما يعادل 3% من محتوى الشبكة عموما، فإن الأمر يستدعي العمل على تطوير هذه النسبة بشدة، وألا يكون العمل كما يحدث الآن عن طريق وجود محاولات فردية للنشر على الشبكة من قبل شركات النشر الخاصة التي – وإن سعت للربح – فإن وجودها على الشبكة العنكبوتية كان بحجم ال3% القار فعلا.

وإذا كنا في عصر الكيانات الكبرى والتنافس بينها على مناطق النفوذ الاقتصادي، وهو ما تجلى في التنافس بين جوجل وأمازون مثلا، فإن الأوان قد آن لكي تتحد الكيانات والمؤسسات الثقافية العربية لكي تنشئ لنفسها وجودا خاصا على الشبكة، وهو الأمر الذي يشكل ضرورة اقتصادية كما هي ثقافية وسياسية.

خامسا: الطبع المتواقت في عدة أماكن

إذا كان الكتاب هو العصب الأساسي في العمل الثقافي، وإذا كانت صناعة النشر العربية تعاني من مجموعة أزمات متتالية ناتجة عن معدلات التضخم، وطغيان ثقافة الصورة، وقرصنة حقوق الملكية الفكرية، وعدم تفعيل قوانينها في مجتمعاتنا بالقدر الكافي للحفاظ على كامل حقوق الناشر والمؤلف، بالإضافة إلى انصراف كثير من متلقي المعرفة عن الكتاب الورقي إلى الكتاب الإلكتروني، وكل ذلك مما يعد صعوبات تواجه إحدى الصناعات الثقافية المهمة.

وعلى ذلك يمكن لنا أن نضيف في المضمار نفسه ضرورات أساسية منها ضرورة تعاون المؤسسات العربية فيما بينها للتعظيم من إمكانات المشروعات الثقافية لتتخذ طابعا اقتصاديا، أو تخفف على الأقل من الأعباء الاقتصادية المحملة على المشروعات الثقافية.

فعلى سبيل المثال، تتحمل صناعة النشر تكاليف الشحن والجمارك من أجل نقل الكتب المطبوعة من دولة إلى أخرى، مضافا إلى كل ذلك اختلاف المعايير الاقتصادية بين هذه الدول، ويمكن أن يكون الحل المقترح لهذه الصعوبة أن تتعاون هيئات النشر في تلك الدول فيما يمكن أن نطلق عليه الطبع المتواقت، وهو أن يتم طباعة الكتاب في مكانه الأصلي في الوقت نفسه الذي يتم فيه طباعته في أماكن أخرى وتبعا للظروف الاقتصادية لهذه الأماكن، على أن يكون ذلك بالتبادل بين تلك الهيئات، وهو الأمر الذي يوفر كثيرا من التكاليف والإجراءات، وينتج الكتاب بأسعار تتناسب مع المتلقي في كل بلد، ويسهم في التواصل بين منتج المعرفة ومتلقيها في البلاد العربية كافة، بما يمثل حلا مهما من حلول أزمات النشر التي يتركز معظمها في التكلفة الاقتصادية.

ويمكن البدء في هذا المضمار بالمجلات الثقافية الأكثر انتشارا في البلاد العربية، بما يعزز من أواصر التعاون الثقافي بخلق مصلحة اقتصادية مشتركة بين تلك الهيئات، وهو الأمر الذي يمكنه ضمان استمرار تلك المشروعات إلى أمد طويل، خاصة إذا تم إشراك مؤسسات القطاع الخاص التي تعمل بالنشر في مثل تلك المشروعات.

وختاما، تملك الأمة العربية الكثير بالفعل، لكن هذا الكثير أهمه هو أفراد هذه الأمة وتراثهم وإبداعهم، وهي الأشياء التي أوجدت لنا تاريخا وحضارة استطاعت أن تترك في تاريخ الإنسانية علاماتها الفارقة والمهمة، كما استطاعت أن تجعلنا مُحملين بهوية خاصة على اختلاف أقطارنا، هي الهوية التي تتخذ طابعها من كل تلك العناصر المتمثلة في القباب والمآذن والأرابيسك ونقوش جدران المساجد، كما تعبر عن نفسها في الشعر والمقامة، وتتزين في الفخار ومنسوجات الصوف اليدوية.

لكن ما علينا الآن – فقط – هو استغلال ذلك التراث، وقوفا على العنصر البشري وإبداعه، واستثمار هذا الإبداع من أجل ترسيخ دعائم هويتنا من ناحية، ومن ناحية أخرى سنجد هذه الهوية بعناصرها كافة وسيلة حقيقية وفعالة لتحقيق الرفاه الاقتصادي، وليس علينا لنحقق ذلك سوى أن نؤمن أن أثمن ما نمتلكه هو البشر وإبداعهم.

وبالطبع فإن الغرض الأساسي من عرض هذه  الرؤية وتلك الآليات ليس بأي من الأحوال الاتجاه إلى تسليع الثقافة، والتعامل معها بصورة اقتصادية – أو بالأحرى رأسمالية –  لكن التحول في التعامل مع الثقافة من مجرد كونها خدمة إلى كونها موردا يمكنه توفير إمكانات تقديم الخدمة الثقافية، بالإضافة إلى تغيير النظر إلى الثقافة بوصفها هامشا وعالة إلى كونها معبرا حقيقيا ومفيدا عن الهوية الخاصة بالمجتمع، وهو الهدف الذي يمكن النظر إليه بوصفه هدفا أسمى في هذا المجال من أجل التوسيع من دائرة إنتاج المعرفة، ولتكون الثقافة فاعلة وفعالة في بناء المجتمعات العربية.

                                                               

 

 

 

 

 

 

 

 

 

The post الثقافة والاقتصاد..نحو علاقة جديدة وتنمية متبادلة appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6561
رائحة الأمهات..! https://draya-eg.org/2023/03/21/%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d8%ad%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d9%87%d8%a7%d8%aa/ Tue, 21 Mar 2023 10:54:55 +0000 https://draya-eg.org/?p=6554 بقلم: أ.د/صلاح هاشم  فى كل عام يُذكرنا العالم بأن هناك اختراع إنساني جميل اسمه ” عيد الأم ” وكأننا نحتاجه كل عام مرة لنُجدد الإحساس بالأمومة، وكأن الأمومة إحساس يمكن أن يغيب، أو دافع يمكن أن ينطفئ، أو رغبة يمكن أن تموت .. فقد كتبت في مقالة سابقة عن الأمومة وكيف أن مشاعرنا نحوها مخلوقة …

The post رائحة الأمهات..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: أ.د/صلاح هاشم 

فى كل عام يُذكرنا العالم بأن هناك اختراع إنساني جميل اسمه ” عيد الأم ” وكأننا نحتاجه كل عام مرة لنُجدد الإحساس بالأمومة، وكأن الأمومة إحساس يمكن أن يغيب، أو دافع يمكن أن ينطفئ، أو رغبة يمكن أن تموت .. فقد كتبت في مقالة سابقة عن الأمومة وكيف أن مشاعرنا نحوها مخلوقة وليست مكتسبة، فهي مشاعر لا تصنعها المواقف والمصالح، بل تصنعها طبيعة التكوين والفطرة الإنسانية السليمة .. والدليل على ذلك أن الذين يفتقدون القدرة على التفكير والتدبير والاستنباط والاستنتاج لا يفقدون مشاعرهم الفطرية تجاه الأم.

ففي التجارب التى أجراها علماء النفس لاختبار العوامل التى تربط الإنسان بأمه، أحضروا ثلاثة هياكل رمزية لأمهات الشمبانزي، ووضعوا في الهيكل الأول ضِرعاً به لبن يشبه إلى حد كبير صدر الأم. ووضعوا في الهيكل الثاني صوت دفاء  يحمل إلى حدٍ كبير بعضاً من حنان الأم، بينما وضعوا في الهيكل الثالث قلباً  ينبض بانتظام لا يختلف أبداً عن دقات قلب الإنسان، وأحضروا شمبانزي صغيراً وعرضوه لصدمات كهربائية مرعبة لاختبار إلى أي هيكل سوف يلجأ طفل الشمبانزي حين يشعر بالخوف وعدم الأمان والتهديد بفقدان الحياة . فهل يلجأ إلى صدر الأم الذى يعبر عن العلاقة النفعية التي تربط الطفل بأمه والتي يشعر فيه بأن صدرها هو مصدر الحياة، أم يلجأ إلى صوت الأم المليء بالدفء والحنان والذى يعبر عن الوّنس الاجتماعي والقوة إذا لزم الأمر، أم أنه سوف يلجأ إلى القلب النابض الذى يشعر فيه الطفل برائحة الأم حتى وإن كانت في هيكل عظمي ليس فيه حياة ” ..  وفى كل مرة تعرض فيها طفل الشمبانزي وجدوه يفر مهرولاً إلى حضن الأم الذى يخبئ بداخله القلب النابض وكأنه يحتمي في دقاته الموسيقية المنتظمة، حتى وإن كان خالياً من الطعام والقوة .. ولكن به القلب الذى اعتاد الطفل على سماعه تسعة أشهرٍ، داخل غرفة ظلماء كانت تُشكل بالنسبة له الحياة الكاملة ! 

رائحة الحياة

يبدو أن لرائحة الأم تأثيراً أقوى من قدرة العقل على التفكير، وأكبر من قدرته على استنباط الحقائق والأفكار وترتيب المشاعر .. تأثيرا لا يضعف مع الزمن بل يزداد قوة وتأثيراً حتى بعد الموت .. وفي إحدى المصحات العقلية كتبَ مريضٌ لأُمه رسالة خطية، قال لها فيها: “مساء الخير يا أمي..إنهم في المصحة لا يضعون لي الملحَ في الطعام، ولا يسمحونَ لي بفتح النوافذ، لم أعد أحتملُ كل هذه القسوةِ في المعاملة، أنا فقط أريد رائحتكِ في وسادتي بدلاً من  الأدوية..!

يعدونني بعدَ كل نوبةٍ أنك ستأتينَ غدًا،  وفي كل غدٍ أكون وحدي.. أعلمُ أنني أتعبتك معي كثيرًا، وأنّ البيتَ أصبح هادئاً بدوني، حتى  الأبواب لم تعد تغلق بإحكام، والجيران لا يشتكون أصواتي الصاخبة،  وأنَّ الصحون رغم ضعفها باتت تعمّر طويلاً .. لكنني أنا ابنك الذي يموتُ هنا ..ولا يحتاج سوى قليل من الملح في طعامه، أو بعضاً من رائحتك كي يعيش! 

رائحة الموت

من أعنف ما كُتبَ في الأدب الروسي حكاية الزوج الشاب الذى داهمه الموت كعادته بالبشر يأتي دون سابقة إنذار، ودون أن يمهل صاحبه بعضاً من الوقت لترتيب أوضاعه، والتخلص من الأشياء التى ربما تُقلقه بعد الموت – حسب ظنه – وخاصة الأشياء المتعلقة بمستقبل الأولاد ومشاكل الزوجة التى ربما لا تنتهي .. وكتب من داخل مقبرته رسالة قال فيها: “لقد توفيت منذ دقيقتين.. وجدت نفسي هُنا وحدي معي مجموعة من الملائكة، وآخرين لا أعرف ما هم، توسلت بهم أن يعيدونني إلى الحياة، من أجل زوجتي التي لا تزال صغيرة وولدي الذي لم يرَ النور بعد، لقد كانت زوجتي حامل في شهرها الثالث”. مرت عدة دقائق أخرى، جاء أحد الملائكة يحمل شيئا يُشبه شاشة التلفاز أخبرني أن التوقيت بين الدُنيا والآخرة يختلف كثيراً، الدقائق هُنا تعادل الكثير من الأيام هناك، قائلا: “تستطيع أن تطمئن عليهم من هنا”.

قام بتشغيل الشاشة فظهرت زوجتي مباشرةً تحمل طفلاً صغيراً! الصورة كانت مسرعة جداً، الزمن كان يتغير كل دقيقة، كان ابني يكبر ويكبر، وكل شيء يتغير، غيرت زوجتي الأثاث، استطاعت أن تحصل على مرتبي التقاعدي، دخل ابني للمدرسة، تزوج اخوتي الواحد تلو الآخر، أصبح للجميع حياته الخاصة، مرت الكثير من الحوادث، وفي زحمة الحركة والصورة المشوشة، لاحظت شيئاً ثابتاً في الخلف، يبدو كالظل الأسود، مرت دقائق كثيرة، ولا يزال الظل ذاته في جميع الصور، كانت تمر هنالك السنوات، كان الظل يصغر، ويخفت، ناديت على أحد الملائكة، توسلته أن يقرب لي هذا الظل حتى اراه جيداً، لقد كان ملاكا عطوفاً، لم يقم فقط بتقريب الصورة، بل عرض المشهد بذات التوقيت الأرضي، و لاأزال هُنا قابعاً في مكاني، منذ خمسة عشر عام، أُشاهد هذا الظل يبكي فأبكي، لم يكن هذا الظل سوى “أمي”.

فيبدو أنه لم يرى صورة أمه بل شم رائحتها في كل حدث .. فدموعها لم تجف مع طول فترة الرحيل.. وظلت تترقب أحداث رائحته عن قرب وفى سكات حزين .. لم يرى صاحبنا صورتها في الشاشة ولكن رائحتها كانت لديه أقوى من الحدث كما كانت أقوى من الزمن ! 

رائحة الخبز

فلا أنسى أبدا حين جاءت أمي من الصعيد لزيارتي في القاهرة، وفى جلسة دافئة كالعادة قالت:”هل تذكر كيف كان طعم خبزي حين كنت شابة عفيّة؟” نظرت لها في تعجب وقُلت: “ربما لم أذكر طعم الخبز فقد جعلتني الأطعمة الجديدة أنسى قدراً كبيراً من طعمه، لكنني حتماً لم أنس أبداً يا أمي رائحة الخبز”. فقالت أمي:  “أعرف أنك كنت دائماً تُفضل البعد رغم أنك القريب”. قلت لها : “هذه دعوتك منذ كنت صغيراً بألا يكتب الله لي عيشاً بالصعيد، وأنا هنا أنفذ قدر الله الذى استجاب لدعوتك”. قالت: ” كنت أخاف عليك من حريتك وعقلك الذى كان يسبق الزمن الذى كنا نعيش فيه” فقلت لها: “أنا هنا ليس سوى دعوتك. فلما إذاً تتعجبين يا أمي؟. قالت: “لم أكن أتخيل أن الله سوف يستجيب دعوتي وأنا على قيد الحياة، ويمتد عمري ونعيش غريبين فى الحياة”. أنا الآن أعيش فقط على رائحة فراشك التى لم تذبل منذ رحلت عن الصعيد” فقلت لها باكياً: “وأنا الآن أعيش فى العاصمة على رائحة خبزك التى لا تغيب”!

 

 

The post رائحة الأمهات..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6554
صدمة الوعي..! https://draya-eg.org/2023/03/15/%d8%b5%d8%af%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%b9%d9%8a/ Wed, 15 Mar 2023 20:22:53 +0000 https://draya-eg.org/?p=6537 بقلم: أ.د/ صلاح هاشم كثيراً ما نقرأ ونسمع عن أهمية الوعي والادراك فى بناء المجتمعات الإنسانية، وأن الوعي العام للمجتمع هو اللبنة التى تُؤسس عليها الدول حضارتها .. وبدون وعي إنساني بطبيعة الأحوال والظروف التاريخية والأزمات ومصادر القوى تُصبح هذه المجتمعات هشة ضعيفة لا تقوى على مواجهة الصدمات الحضارية ولا حتى الثقافية التى ربما تُهدد …

The post صدمة الوعي..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
بقلم: أ.د/ صلاح هاشم

كثيراً ما نقرأ ونسمع عن أهمية الوعي والادراك فى بناء المجتمعات الإنسانية، وأن الوعي العام للمجتمع هو اللبنة التى تُؤسس عليها الدول حضارتها .. وبدون وعي إنساني بطبيعة الأحوال والظروف التاريخية والأزمات ومصادر القوى تُصبح هذه المجتمعات هشة ضعيفة لا تقوى على مواجهة الصدمات الحضارية ولا حتى الثقافية التى ربما تُهدد بقائها بشكل عام .

فعندما سُئل الفيلسوف الروسي ” أنطون تشيخوف ” عن طبيعة المجتمعات الفاشلة أجاب بأنها المجتمعات التى يُقابل فيها كل عقل راجح ألف عقل أحمق..وكل كلمة واعية يقابلها ألف كلمة خرفاء .. وفيها  تظل غالبية مواطنيها بلهاء، ولها الغلبة دائمًا على العقلاء وأصحاب المنطق الإنساني السليم. فإذا رأيت الموضوعات التافهة تحتل صدارة أحاديث الساعة عند المثقفين والعامة، وعندما  يتصدر التافهون المشهد، فاعلم أنك تتحدث عن مجتمعات فاشلة!

وعندما تغيب الإنسانية تمرض المجتمعات ويصبح الوعي هو العلاج الفعال لاستعادة صحتها .. فقد يكون الوعي والإدراك الجيد بديلاً فعالا لأقوى الأسلحة في الحروب التى تخوضها المجتمعات فى أزماتها السياسية والعسكرية والاقتصادية، والسبيل الأول لتحقيق الاستقرار ومواجهة كافة أنواع الجشع سواء كان جشعاً سياسياً أو مادياً . 

وفى إطار الحديث عن أهمية الوعي في مواجهة الجشع المادي وموجات الاحتكار التى يمارسها بعض التجار ولا سيما في الأزمات، تحضرنى حكاية فرنسية كنت قد قرأتها عن ثقافة القطعان التى صارت بعد ذلك مضرب المثل فى كثير من المواقف السياسية التى تتحدث عن القطعان وغياب الوعي..  ولما نشبه المغيبين دائماً بالخرفان، فتحكي القصة عن  رجل يُدعي “بانورج ” كان في رحلة بحريّة على متن سفينة. وكان على نفس السفينة تاجر الأغنام “دندونو” ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.. كان “دندونو” تاجراً جشعاً يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية.. وحدث أن وقع شجار على سطح المركب بين “بانورج” والتاجر “دندونو” صمم على أثره “بانورج” أن ينتقم من التاجر الجشع ، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال.

ووسط سعادة “دوندونو” بالصفقة الرابحة، وفي مشهد غريب يمسك “بانورج” بالخروف من قرنيه ويجره بقوة إلى طرف السفينة ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره المحتوم ، ليلحقه الثاني فالثالث والرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في “طابور مهيب” لتمارس دورها في القفز.

جن جنون تاجر الأغنام “دندونو” وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء ، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل ،فقد كان “إيمان”الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم، وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملا في إنقاذه من مصيره المحتوم ، إلّا أن الخروف “المؤمن” لم يستطع التخلي عن ثقافة القطيع التي جُبل عليها، وكان مصراً على الانسياق وراء الخرفان، فسقط كلاهما في الماء ليموتا معًا غرقاً.

ومن هذه القصة صار تعبير “خرفان بانورج” (moutons de Panurge) مصطلحاً شائعاً في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين.. وانتقل بعد ذلك المصطلح إلى كافة المجتمعات الإنسانية ليؤكد على أنه ليس أخطر على مجتمع ما من تنامي روح القطيع لديه.

وكثيرا ما نصادف في حياتنا قطعان كاملة من “خرفان بانورج ” تُردد كلاما ًأو تفعل أفعالاً لمجرد أنها سمعت أو رأت من يقوم بذلك. ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة داء ” البغبغانية ” أو داء “اللفظية ” والذي يُقصد به تكرار مصطلحات دون فهم أو إدراك معناها ..!  فالوعى هو ظاهرة إنسانية تسمح للإنسان باستخدام عقله، فإن لم يستخدمه سمح لغيره باستخدامه والتحكم فيه.

ورغم أهمية الوعي  في بناء الشخصية إلا أنه لا يوجد اتفاق واضح بين الكتاب والفلاسفة على أهمية الوعي، فكثير من الفلاسفة يرون أن الوعي قد يصبح نقمة ويمنع الإنسان من الاستمتاع بحياته، وأن الإنسان عادة ما يتأذى لأنه تألم أكثر من قدرته على التحمل أو أنه عرف أكثر من اللازم، وأن الحزن يصيب فقط أولئك الذين يستوعبون أكثر ما يجب أو لأنهم يعرفون أكثر من اللازم!

 فبينما يرى الأديب “فرانس كافكا ” أن الافراط في الوعي والإدراك أشد خطورة على الإنسان من المخدرات .. ويقولُ الكاتب والفيلسوف” إيميل سيوران ” أن الوعي لعنة مُزمنة، كارثة مَهولة، وإنهُ منفانا الحقيقي ، فالجهل وطن، والوعي منفى.“ وهو بذلك لا يختلف كثيراً عن ” فيودور دوستوفيسكي ” الذى يرى أن الوعي الكامل مرض إنساني خطير!

وأنا هنا ربما اتفق مع آراء كافكا وسيوران ودستوفيسكي عن خطورة الوعي أحياناً على أمن الإنسان  وأحياناً أخرى على استقرار المجتمعات، فقد كانت جريمة أرسطو أنه علم الناس الكلام، كما كان الوعي سبباً أساسياً في مأساة الحلاج، وهو نفسه الوعي الذى دفع الناس في فلبين ماركوس إلى بيع أصواتهم الانتخابية، لأنهم كانوا على وعي بأنها المرة الأولى وربما تكون الأخيرة التى يرون فيها المرشحين للبرلمان، فهم يعتقدون أن المبالغ التى يتحصلون عليها مقابل بيع أصواتهم ربما تكون العائد الوحيد من الانتخابات البرلمانية! وقد يكون هذا الأمر مفيداً على مستوى المصالح الفردية الضيقة، لكنه حتماً سيكون معدول هدمٍ شديد الفعالية على مستقبل الدول والأنظمة والمجتمعات الإنسانية.

فالوعى الآمن هو الذى تكون فيه المعرفة على قدر الاحتياج.. وأيا كانت خطورة الوعى فلا شك أنه سلاح الدول النظيف لتحقيق الاستقرار والتنمية، وبدونه تصبح المجتمعات فريسة سهلة للغزو الثقافي الذي يُدير العقول والأفكار ويجعلها تعمل بالمقلوب لتصبح أسلحة فتاكة موجهة فقط نحو مجتمعاتها وحضاراتها التى تم بناء حضارتها على مر السنين.

 

 

 

 

The post صدمة الوعي..! appeared first on المنتدي الاستراتيجي للسياسات العامة و دراسات التنمية.

]]>
6537